محمد جويلي.. إنتاج معرفة أم إنتاج دروس؟

10 أكتوبر 2019
محمد جويلي
+ الخط -

يبدو تاريخ علم الاجتماع - كممارسة نظرية حول المجتمع - مثل سردية موازية لتطوّرات الأخير، حيث يعيد بناء واقعه من خلال المواضيع التي يشتغل عليها أو المنهجيات التي يعتمدها، وحتى من خلال تقاطعاته مع مجالات معرفية أخرى، وعلى رأسها الأنثروبولوجيا التي تبدو في السنوات الأخيرة مثل توأم لعلم الاجتماع، فكثيراً ما جرى اعتماد مقاربات المجالين بشكل متداخل.

ضمن هذه المنطقة التي يتقاطع فيها علم الاجتماع بالأنثروبولوجيا، يمكن أن نضع أعمال الباحث التونسي محمد جويلي (1966)، ورغم أن تكوينه الأكاديمي كان في علم الاجتماع، فإن الكتابين اللذين أصدرهما؛ "مجتمعات للذاكرة.. مجتمعات للنسيان" (1996) و"الثأر الرمزي، تماس الهويات في واحات الجنوب التونسي" (2009)، يبدوان أقرب إلى الأنثروبولوجيا، وعن ذلك يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "ينبغي لنا أن ننتبه إلى أن الحدود أصبحت رخوة بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وهو أمر دارج حتى أن البعض بات يستعمل اليوم مصطلح السوسيو-أنثروبولوجيا كتعبير عن التمازج الواقع بينهما".

يعتبر جويلي أن هذا التمازج منطقي إذا نظرنا إلى سياقاته، حيث يضيف: "لقد كانت السوسيولوجيا في بداياتها تُعنى بالمجتمعات الصناعية تحديداً، فيما تهتم الأنثروبولوجيا بالمجتمعات التي كانت تسمّى بالإكزوتيكية انطلاقاً من المركزية الغربية، وهو تقسيم تقليدي لم يعد يستقيم اليوم، حيث إن الأنثروبولوجيا اليوم تتحرك في المدينة الأوروبية كما أنه يمكن الاشتغال سوسيولوجياً على مجتمعات في أفريقيا أو آسيا".

يلفت جويلي إلى "أن الحدود بين العلوم الإنسانية بشكل عام باتت غائمة، فلا يتعلّق الأمر بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا فحسب، حيث يتداخل اليوم التاريخ بالاقتصاد وعلم النفس بالجغرافيا وغير ذلك من الميادين. وهذه النقلة في العلوم الإنسانية أمر طبيعي لأن أيّ ظاهرة إنسانية متعددة الأبعاد بطبيعتها".

يحضر في العقود الأخير خطاب نقدي حول الأنثروبولوجيا باعتبارها مجالاً معرفياً ذا نزعة استعمارية. يعيد الباحث التونسي هذه النزعة إلى نشأة الأنثروبولوجيا حيث إنها "اعتمدت في البداية على نصوص وملاحظات عسكريين وإداريين ضمن الحملات الاستعمارية، وقد قُدّمت أعمالهم باعتبارها معطيات علمية في حين أنها تمتزج بكثير من الشوائب والإسقاطات، ولكن جرى بالتدريج تطوير المنهجيات خصوصاً من خلال تجارب المعايشة". يضيف: "كان الاستعمار يهدف إلى فهم هذه المجتمعات لدخولها وممارسة هيمنته عليها من الداخل، وفي الحقيقة لم تتطور الأنثروبولوجيا وحدها بهذه الطريقة بل حتى علوم التربة والمناخ. كانت الفكرة الاستعمارية تقوم على مبدأ معرفة أكثر تعني هيمنة أكبر".

وعن واقع الأنثروبولوجيا اليوم انطلاقاً من مسألة توظيفها – استعمارياً أو في أي سياق آخر – يقول جويلي: "هناك دائماً توظيفات للمعرفة الأنثروبولوجية حتى في أشكالها البسيطة، فمثلاً تعتمد شبكات المطاعم الكبرى مثل ماكدونالدز، أو شركات الملابس الجاهزة، على دراسات أنثروبولوجية لفهم ثقافة الاستهلاك". لكنه يعتبر أنه "كثيراً ما يلتقط علم التسويق Marketing المعطيات من الأبحاث الاجتماعية والأنثروبولوجية وينسبها إلى نفسه"، وهو هنا يشير إلى انتقال تدريجي لدى علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا من صفة الباحث إلى الخبير، أي من يقدّم معرفة تحت الطلب، وليس بغرض التراكم العلمي.

بشكل عام، يبدو موقع الأنثروبولوجي غائماً في تونس، فهو لا يوحي بمجال دقيق يتحرّك ضمنه، وهو ما يؤكّده جويلي، ويفسّر ذلك بأنه "لدينا في تونس تقليد سوسيولوجي يعطّل تطوّر الأنثروبولوجيا، وهذا من تبعات التأثر بالمدرسة الفرنسية، بل إن الأنثروبولوجيا في تونس تتطوّر أساساً من خلال انعطافات علماء الاجتماع إلى هذا المجال". ومن جهة أخرى - يتابع محدّثنا - فـ"إن مجالات مثل الإعلام والنشر، لم تُظهر قبولها الواضح للأنثروبولوجيا".

يعيد جويلي هذا الوضع إلى إشكاليات داخل الجامعة التونسية أيضاً، حيث يقول: "بقينا نربط المجالات المعرفية بالتخصّصات الأكاديمية، وبذلك أصبح مقياس التطوّر العلمي هو تحصيل المراتب في الجامعة. بعبارة أخرى، لا يزال موقع الباحث يقف في ظل موقع الأستاذ، بمنطق أن الدكتوراه شهادة يريد صاحبها أن يكون أستاذاً جامعياً وليس باحثاً، وحتى البحث فإنه يتم من أجل الترقيات، وهذه تقاليد لا تتيح مناخاً ملائماً للتطوّر العلمي. باختصار، ليس هناك إنتاج للمعرفة بل إنتاج للدروس".

أما على مستوى علم الاجتماع، فقد عرف في كثير من الأحيان توجيهات الدولة، إذ يشير الجويلي إلى أن "دولة الاستقلال ولقراءة التحوّلات الاجتماعية وجدت أمامها جيلاً أوّل من الباحثين كانوا ذا نزعة يسارية بحكم البراديغمات المهيمنة وقتها على هذا المجال". يضيف: "كان هذا الجيل يؤمن بالتغيير الاجتماعي، وهو طرح كان مقلقاً لنظام بورقيبة لذلك بدأت محاولات جدية لتحويل وجهة علم الاجتماع إلى أهداف أخرى تتماشى مع سياسات الدولة".

يذكر هنا جويلي أنه "يمكن اعتبار كتاب "شبيكة" (اسم قرية في الجنوب التونسي) الذي أعدّه عالم الاجتماع الفرنسي جان دوفينيو وصدر في 1968، منعطفاً في تاريخ علم الاجتماع في تونس، إذ كان أشبه بمحاكمة للنظام البورقيبي حيث يعرّي فشله التنموي". هنا، يضيف الباحث التونسي: "بدأ النظام يضع يده تدريجياً على السوسيولوجيا، خصوصاً مع بعث "مركز الأبحاث والدراسات الاجتماعية"، بدأت تتغيّر أنماط التحليل، فانتقلنا من مقولة التغيير الاجتماعي إلى الإدماج الاجتماعي، واستبدل مفهوم الطبقة بالعائلة، أي أن الأبحاث بدأت تخدم أكثر فأكثر فكرة الدولة الدامجة".

انعكس هذا التوجّه – بحسب جويلي - على خيارات الأبحاث، حيث "ظهر ميل نحو مواضيع التنمية والتشغيل، ثم بدأت تتشكل سوسيولوجيا حول الحركات الاجتماعية خصوصاً ضمن محاورها الكبرى كالحركة النقابية والطلابية والنسوية والمجتمع المدني وشريحة المهاجرين وصولاً إلى دراسة التنظيمات الإسلامية، وكانت هذه المحاور واضحة في توجيهات الأستاذة نحو أبحاث بعينها، ولعل مسحاً إحصائياً لأطروحات الدكتوراه وقتها يوضّح هذا الأمر".

في عقد التسعينيات، وبداية العولمة، وانهيار جدار برلين يعتبر جويلي أن "علم الاجتماع في تونس دخل مرحلة جديدة بالاعتماد على البراديغم الثقافي بأسئلته حول الهوية واللغة والأقليات، وأنا أنتمي إلى هذا الجيل". انطلاقاً من هذه الإشارة يعود الباحث التونسي إلى تفسير تمازج الأنثروبولوجيا بعلم الاجتماع، فقد كان ذلك ممكناً ضمن البراديغم الثقافي، يقول: "أنا بدأت من نقطة الالتقاء تلك".

قد نتوقّع أن "الثورة التونسية" مثّلت منطلقاً لمرحلة جديدة في علم الاجتماع في تونس، غير أن جويلي لا يقول بوجود قطيعة بين ما قبل وما بعد 2011. يقول: "أجد أن هناك عودة إلى بعض المواضيع التي لم يكن من الممكن ذهاب الباحثين بها لأبعد حد بسبب الحدود السياسية، ومنها مثلاً مسائل مرتبطة بقضايا الشباب التي فرضتها الثورة بقوة بعد أن كانت مقارباتها موجهة من طرف الدولة".

ضمن هذا الانشغال بالشباب تتحرّك أبحاث جويلي اليوم، وقد جعل منطلقه دراسة ظاهرة كرة القدم. مبحث يشير إلى أنه "يتفرّع إلى قضايا متعددة مثل أشكال الانتماء وبناء الهويات، والعنف، والتفاوت الاقتصادي، وتصورات الشباب، والتديّن، أي أنه في النهاية يتيح قراءة شاملة للمجتمع التونسي، وهناك أسئلة كبرى تجد إجاباتها في ظاهرة مثل كرة القدم، مثل صعود النزعة الفردانية أو ظهور أشكال جديدة من النضالية. فظاهرة مثل كرة القدم كما يعيشها الشباب اليوم هي أحد مفاتيح تأويل التحوّلات المجتمعية".

من منطلق هذه المعرفة بالشباب ومختلف الظواهر الاجتماعية، سألنا محدّثنا كيف يقرأ نتائج الانتخابات التونسية بعين الأنثروبولوجي. يجيب قائلاً: "يوجد مسار تاريخي ينبغي الانتباه له. في كل محطة انتخابية توجد قاعدة اختيار تصنعها ظروف المرحلة، ففي 2011 كان الهدف إحداث قطيعة مع النظام السابق فأفرزت الانتخابات فوز الإسلام السياسي، وكان الفاعل الأساسي هو المناضل لتدخل البلاد في تجاذبات سياسية قوية أفرزت مشهداً مغايراً، وهو ما أفرز لاحقاً قاعدة اختيار جديدة في انتخابات 2014 تمثلت في إرجاع هيبة الدولة، فاقتضى ذلك إعادة القديم للحكم وهو ما تجسّده شخصية الباجي قائد السبسي. وأصبح الفاعل في هذه المرحلة هو السياسي ذو التجربة التي ترجع إلى ما قبل الثورة. ومع فشل هذه المنظومة أيضاً، قامت الانتخابات الأخيرة على قاعدة قدرات فرد يكتسبها من خارج الأطر المتعارف عليها ويمثلها الفائزان في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية كلٌّ بطريقته".

المساهمون