يقيم علم الاجتماع في البلاد العربية علاقات إشكالية مع محيطه، بدءاً بصعوبات تأصيل مفاهيمه ونظرياته، ووصولاً إلى واقعه الميداني بين "تنمّر" الدولة والتباس أدواره لدى فئات موسعة. يضيء الباحث التونسي واقع هذا الحقل المعرفي اليوم في لقائه مع "العربي الجديد".
■ عادة ما يقترن الحديث عن العلوم الاجتماعية في الثقافة العربية بالحديث عن أزمة تأصيل. هل ما زلنا في اللحظة الراهنة عند نفس هذه الإشكالية؟
- تدرك الجماعات العلمية المنشغلة بالعلوم الاجتماعية أن هذه الأخيرة كانت وليدة سياقات أواخر القرن التاسع عشر وهي فترة يقابلها غياب العرب عن الإنتاج العلمي وتحديداً في الإنسانيات، فباستثناء ابن خلدون قبل أكثر من أربعة قرون، لا يمكن الحديث عن أية مساهمة عربية جادة في هذا الحقل المعرفي. إذن غاب العرب عن ميلاد العلوم الاجتماعية، ثم انتشرت هذه العلوم خارج الفضاء الغربي وتلقفها العرب من خلال حضور علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع ضمن سياقات استعمارية أو تمهيداً للاستعمار، ثم مع البعثات التعليمية نحو أوروبا ومع التعليم الحديث لاحقاً.
وفي المحصلة كان من الواضح أن العلوم الاجتماعية، وهي تطمع إلى معرفة المجتمعات وتحليلها، لم تنجُ من نزعة كولونيالية، كلما تعلق الأمر بمعرفة "مجتمعات أخرى"؛ إذ تسود في أدبياتها أحياناً الرؤية الغرائبية، ومنها ما اُنتج آنذاك من دراسات تناولت المجتمعات العربية، وحضرت فيها الكثير من الإسقاطات السياسية والأيديولوجية، وهي عناصر خلقت صدىً عفوياً في ثقافتنا تجاه هذه العلوم.
تحت تلك "الشبهة" بعد ذلك، وتحديداً بعد "الاستقلالات"، جرى استعمالها بحذر في وقت كانت تتوسّع فيه دائرة نشاط العلوم الإنسانية وحقولها الاصطلاحية وتقنياتها ومناهجها. وحتى عند دخول العلوم الإنسانية في مسارات مراجعة، خصوصاً مع ميشيل فوكو، لم يكن العالم العربي يحيا تلك اللحظة. ولكن بعد سنوات قليلة صرنا نجد تقاطعات عربية مع سياق مراجعة العلوم الاجتماعية وصولاً إلى مرحلة نقد مفاهيميها. وتحضر هنا خصوصاً محاولات إدوارد سعيد وعبد الله حمودي وغيرهما.
عموماً يمكن القول بأن النزعة ما بعد الكولونيالية للعلوم الاجتماعية أتاحت الإجابة جزئياً على سؤال "التأصيل"، مع ضرورة استبعاد معنى "الجوهري وما فوق التاريخ" من الدلالة، ومع ذلك ظلت المسألة إشكالية، حتى على مستوى المصطلح، وهناك من ذهب إلى مفردات أخرى بالقول بالتبيئة والتوطين والتنسيب على غرار ما يرد في نصوص محمد عابد الجابري حين يقر بأن المفاهيم التي تطرحها العلوم الإنسانية، وهي تطمح أن تكون معرفة كونية، لا يمكن أن تغفل خصوصيات المجتمعات العربية، أي أن نتعامل مع هذا التراث والمشترك البشري في العلوم الإنسانية، ثم نبحث عن تجاوب البيئة المحلية معها.
مثلاً هل هذه البيئة تستجيب لمفهوم أساسي في العلوم الاجتماعية الغربية مثل الطبقة، أم علينا أن نراجع المفهوم نفسه لكي تكون له فاعلية في مجتمعات لم تعرف التشكل الطبقي كما حدث في المجتمعات الغربية التي شهدت الثورة الصناعية؟ وماذا نفعل في حال وجدنا أنفسنا حيال وجود عمّال وعدم وجود طبقة عمالية؟ مثل هذه القضايا بقيت تعتمل في ثقافتنا، ومحكومة بالكثير من الالتباس. وبالنتيجة فإن عالم الاجتماع العربي عليه أن يكون حرفياً، أي ذلك الذي يصنع أدواته بنفسه ويُعملها في الواقع بكثير من الحذر.
■ في الثقافة العربية قول شائع بأن ابن خلدون مؤسّس علم الاجتماع، أيّ انعكاس لهذه المقولة في واقع علم الاجتماع العربي؟
- ليس من اليسير القول بأن ابن خلدون مؤسّسٌ لعلم الاجتماع، على شيوع هذا الرأي، وهو أمر لا يروج في العالم العربي وحده بل في الغرب أيضاً، حيث نجد إشارات إلى ريادة ابن خلدون في كثير من الأدبيات ومنها مدرسة شيكاغو. وهذا القول يستند الى رأي مفاده أن ابن خلدون كان أوّل من تدبّر العلاقة بين التاريخ وعلم العمران البشري.
ولكن لو نظرنا إلى علم الاجتماع من موقع اليوم سنجد بأنه قد تجاوز آباءه في الغرب نفسه، ففي فرنسا جرى تجاوز التراث الدوركايمي إلى حد كبير، هذا إذا سلّمنا بمقولة أخرى تدّعي بأن إيميل دوركايم هو مؤسس علم الاجتماع الحديث، فالكثير من مفاهيم هذا الأخير لم تعد قادرة على فهم ظواهر في المجتمع الحديث، مثلاً نظرياته عن التضامن يصعب تطبيقها في زمن ظهرت فيه أشكال جديدة من التضامن أبرزها التضامن الافتراضي، وحين تحدّث عن التقسيم الاجتماعي للعمل، نجد اليوم أشكال عمل لا تنطبق عليها نماذجه.
هذه الأسئلة الراهنة (علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة الجماعات ببعضها) لا يجيب عنها دوركايم فما بالك بابن خلدون، دون أن يعني ذلك أن ابن خلدون قد انتهى تماماً ولم يعد يجيب عن شيء، أو أن زيارتنا إليه هي زيارة متحف. لا تزال الكثير من مقولات صاحب "المقدمة" قابلة لإضاءة الواقع، ومن ذلك عودة القبيلة إلى الفعل السياسي أو عودة أشكال الترحّل Nomadisme وفكرة الغنيمة التي يمكن أن تفسّر إشكاليات عربية نشهدها اليوم في عمليات الانتقال الديمقراطي.
ولكن بشكل عام، القول بأبوية هذا العالم أو ذاك لحقل معرفي برمّته هو أشبه بأسر مولود في يوم ميلاده، وكما أن الإنسان لا يعطيه تاريخ ميلاده هويته، فإن العلوم أيضاً لا تتخذ هويتها من مجرّد انتسابها الى أحد الآباء، فهي تحفر في مجرى في التاريخ وتتشكّل عبر قطائع وتراكمات وتحوّلات عميقة.
علينا اليوم أن نفهم أن العلوم الحديثة قد تخلصت من جميع آبائها، وبشكل أشمل لم تعد هناك وصفات تُعتمد جاهزةً من هذا المفكر أو ذاك لفهم المجتمع، نلبس نظارات ماركس لنرى قضايا السياسة والدين والعمل، ونظارات فرويد لنفهم الحياة النفسية للإنسان، كل ذلك تجاوزه الزمن.
■ لو عدت بالذاكرة إلى سنوات التحصيل المعرفي الأولى، ما الذي دفعك إلى اختيار علم الاجتماع كاختصاص؟
- اجتزتُ امتحان الباكالوريا سنة 1982، وكنت طالباً متميزاً في الفلسفة؛ حيث حصلت على الجائزة الأولى في الفلسفة على المستوى الوطني، والتي كانت تنظمها "الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية"، وسلمني إياها آنذاك الوزير فرج الشاذلي، ولكن أثناء التوجيه، وبالنظر إلى أنني كنت من التلامذة المسيّسين مبكراً، كان علم الاجتماع يستهويني أكثر، لاعتقادي بأنه يُمكّنني من أدوات تتيح لي أن أجيب عن أسئلة كبرى كانت قد بدأت تشغلني وقتها؛ مثل طبيعة المجتمع والتغيير الاجتماعي.
تلك الأسئلة الكبرى راودت جيلاً بأسره، وحينها كانت لي تصوّرات مسبقة بأن الفلسفة أقل تفكيراً في هذه المشاغل، وهو ما سأفهم لاحقاً بأن مثل هذه الأحكام غير دقيقة، ولكن كانت تلك الصور النمطية التي نحملها عن الميادين المعرفية هي من يحدّد خطواتنا الأولى، والتي ترتسم من ورائها مساراتنا اللاحقة.
أعتقد أنني كنت جزءاً من جيل محظوظ، حيث درسنا عند مجموعة من أهم الأساتذة مثل ليليا بن سالم، وعبد الوهاب بوحديبة، وعبد القادر الزغل، والطاهر لبيب، وفرج اسطمبولي، ومحمد الطالبي، ومحمد عبد الباقي الهرماسي، وخليفة شاطر، ورضا بوكراع (...) وفي الحقيقة، كان تكوين هذا الجيل متيناً، ليس فقط في علم الاجتماع، بل أيضاً في علم النفس والفلسفة، قبل أن تأتي "إصلاحات" أخذت تحصر تكوين الطلاب في مواد الاختصاص المباشر.
من أهم عناصر تكوين جيلي ذلك المناخ المسيّس الذي كان سائداً في الجامعة، وكان لذلك انعكاساته في تكويننا: نهَم القراءة والانتباه إلى الدرس، حيث نناقش مفاهيم يطرحها الأساتذة كلما تقاطعت مع هواجسنا السياسية مثل نمط الإنتاج وعلاقة الدولة بالنظام وبناء الدولة الوطنية ومقاربات التنمية، والرأسمالية والمسألة الوطنية. كان نقاش هذه المسائل - ونحن بين المراهقة السياسية والشغف العلمي - جزءاً من التحصيل المعرفي لجيلنا. للأسف، باتت هذه المناخات مفقودة اليوم، وهو ما ألمسه مع انتقالي إلى موقع التدريس، حيث يحزّ في نفسي ألا أجد تجاوباً ونقاشاً من الطلبة عند طرح هذا النوع من المفاهيم، كما اختفى ذلك النهَم المعرفي الذي كان يسكن الطلبة في وقت سابق.
■ عند التخرّج، ألم يعش ذلك الجيل صدمة بسبب محدودية القدرة على الفعل الاجتماعي؟
- مقارنة بالمتخرّجين اليوم من أقسام علم الاجتماع، لا يمكن الحديث عن محدودية القدرة على الفعل الاجتماعي، فلم يكن هناك صعوبة في مسألة الاندماج المهني، وهذا مهم، فقد كان عدد المتخرجين من قسم الاجتماع قليلاً آنذاك ووجدوا أنفسهم في مواقع متقدمة من المناصب داخل المؤسسات المدنية (التربية، الثقافة، الشؤون الاجتماعية...) والأمنية (إطارات عليا في وزارة الداخلية... ).
شخصياً، اتجهت إلى وزارة الثقافة لفترة امتدّت لقرابة 15 سنة. مع ذلك، وبعد أربعة عقود عن تخرّج جيلي، لا زالت هذه النقطة أساسية، لأن إحدى إشكاليات اختصاص علم الاجتماع اليوم هي إدماج المتخرّجين في مسالك الحياة الاجتماعية، ومنها مواقعهم في الفضاء المهني. أما على مستوى الفاعلية في حد ذاتها، فالمسألة تحتاج إلى النظر في علاقة السياسات العمومية بعلم الاجتماع.
وبشكل عام يمكن أن نحدّد فترتين أساسيّتين، ففي زمن بورقيبة واجه علم الاجتماع تنمّر الدولة، فالرئيس التونسي الأول كان لا يرتاح لعلم الاجتماع وكان يعتقد أنه علم ملوّن أيديولوجياً. المفارقة أن علم الاجتماع في هذه الفترة كان يشهد حركية إنتاج خصوصاً من خلال "مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية"، ولكنه مع ذلك لم يكن يصنع القرارات بل يساهم فيها بقدر هامشي.
أمّا بن علي، فقد حاول أن يستفيد من معارف البحث الاجتماعي، ونظر إليه باعتباره هندسة اجتماعية، وجسّد ذلك من خلال تمكين أسماء جامعية من مواقع أساسية في الدولة كمستشارين ووزراء مثل أحمد عياض الوردني ومحمد عبد الباقي الهرماسي ومنصر الرويسي... ولكن هذا التوظيف قد أفقر البحث ربما لديهم.
هكذا شهدت تونس حالتين في علاقة السلطة بعلم الاجتماع كلاهما كان له أثر سلبيّ على فاعليته، من نظرة السلطة إليه كعلم مشاكس إلى محاولة احتواء هذا العلم بتطويعه عبر استخدامه كهندسة اجتماعية. وهذ أحد أسئلة علم الاجتماع الدائمة، أي موقع له؟ وهو جدل مطروح ليس في تونس فقط بل حتى في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وغيرها من البلدان، خصوصاً مسألة تحويل علم الاجتماع من علم إلى خبرة، وكيفية استفادة الدولة منه دون أن تقلّم أظافره المعرفية، وهي مسائل لا تخصّ علم الاجتماع وحده، بل نجدها في حقول أخرى كعلم النفس وعلوم الاتصال والعلوم السياسية.
■ تشير إلى إشكاليات كبرى مطروحة في علم الاجتماع تحتاج أدوات متطوّرة لمقاربتها. من منطلق كونك أستاذاً لعلم الاجتماع، هل تجد أن الطالب كمشروع باحث يجري تأهيله ليكون قادراً على التصدّي لمثل هذه المقاربات؟
- زرتُ العديد من البلدان الغربية مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا وإسبانيا، واطلعت عن كثب على منزلة علم الاجتماع فيها وفي جامعاتها خصوصاً، وما نقدّمه في تونس لطلبتنا لا يختلف كثيراً عنهم على المستوى النظري، لكن الفرق يصبح شاسعاً عند الحديث عن الجانب "الميداني" في علم الاجتماع. وهذا لا يتعلق بالجامعة وإنما بالبيئة الموسّعة، وهي إشكالية مزدوجة، حيث أن الثقافة السائدة تعاني من خوف تجاه البحث، فهي تمنع -أو على الأقل تعيق- وصول الباحث إلى مصادر بحثه، مثل المسؤولين أو البيانات.
لهذا الأمر تجليات اجتماعية وقانونية وغيرها، من ذلك إيجاد تشريع يفرض على الباحث توفير ترخيص قبل البحث الميداني، حتى في مسائل بسيطة للغاية، وهو ثقل بيروقراطي يمنع تطوير البحث السوسيولوجي، وفي كثير من الأحيان يختار الطالب بحثاً في بداية سنته الجامعية ولا يحصل حتى نهاية السنة على ترخيص. هذه التشريعات تتبنى فرضية مفادها أن كل شيء يدخل ضمن "أسرار الدولة" التي لا ينبغي إفشاؤها، وهنا أشير أساساً إلى "ذهنية" المؤسسات الرسمية، حيث يسود فيها اعتقاد بأن كشف ما في "كواليسها" فيه إساءة لسمعتها، على الرغم من أن الباحثين يلتزمون بأن تكون المعلومات التي يحصلون عليها موظّفة للبحث العلمي لا غير.
والآن انضاف هاجس جديد يتعلق بالتباس البحث العلمي بالصحافة الاستقصائية، ومن ورائها الإعلام بشكل عام وما يمكن أن يثيره من تشهير، ولا يخفى أن هذا الهاجس أيضاً ناتج عن شعور عام بأن الإثارة أقوى من الحقيقة. الأسئلة المعمّقة قد تؤدي، حسب اعتقاد المشرفين عن المؤسسات أو أصحابها، إلى إضاعة الوقت أو كشف مواطن التقصير وشبهات فساد فيصبح المنع في هذه الحالة هو الوسيلة التي تريح هذه الأطراف كلها. على صعيد آخر، يحتاج طالب علم الاجتماع إلى مهارات من خارج الجامعة، مثل امتلاك التقنيات الجديدة للإعلام وتمتين التحصيل اللغوي.
■ ألم يحدث تغيير قبل وبعد 2011 على مستوى حركية البحث السوسيولوجي ومواضيعه؟
- أودّ أن أشير إلى أن الدستور التونسي ينصّ في الفصل 33 على ضمان الحريات الأكاديمية. إذن فإن الصعوبات التي أتحدّث عنها ليست صعوبات قانونية في الأصل، وإنما هي عوائق ذهنية جرى بناؤها انطلاقاً من صورة البحث العلمي لدى المجتمع، وجرت بلورتها إجرائياً في شكل "أعراف صامتة" واقعة تحت ثقافة الخوف.
لكن حتى قبل 2011، لم يكن النظام السياسي يعيق البحث العلمي بشكل مباشر إلا نادراً، غير أنه نجح في صناعة حالة من الرقابة الذاتية، بمعنى أن الباحثين صاروا يقصون بشكل بديهي مواضيع محرجة، مثل البحث في الظاهرة السلفية، وقضايا علم الاجتماع السياسي وهو فرع أساسي في السوسيولوجيا كاد أن يدخل في حالة موت سريري. ما نجحت فيه السلطة وقتها هو هندسة الذهنيات بشكل عمّق الرقابة الذاتية، وبذلك نجحت في توسيع دوائر اللامفكر فيه، وبالتالي ضيّقت دائرة البحث السوسيولوجي، دون أن ننسى أحياناً مصادرة بعض الكتب وعدم منح ترخيصات إجراء البحوث الميدانية.
حالياً تغيّر الوضع، صارت مواضيع مثل بناء الدولة والحركات الاجتماعية والأقليات والممارسات الجنسية رائجة، أي أنه لم يعد هناك مواضيع مقصيّة إلى منطقة اللامفكر فيه بمقتضى الرقابة الذاتية أو العلمية، ولم تعد هناك أجندة بحثية موحدة، هناك الكثير من المبادرة والجرأة، كما ظهرت مباحث جديدة تعبّر عن تفاعل مع الواقع؛ مثل سوسيولوجيا الانتخابات وعلم الاجتماع الهوامش، وهذا المبحث هو أكثر ما يستهويني الآن.
■ تغيب بعض حقول علم الاجتماع التي نجدها رائجة في فضاءات أخرى، ومنها مثلاً علم الاجتماع النخب أو علم اجتماع المثقفين. كيف تفسر ذلك؟
- كانت هناك مع بداية الثمانينات أعمال تناولت هذه المواضيع. أذكر منها أعمال محمد عبد الباقي الهرماسي والطاهر لبيب والمرحوم عبد القادر الزغل. أما حالياً فيمكن أن نذكر عملاً مرجعياً من جيل ما بعد المؤسسين بعنوان "الزبونية السياسية في المجتمع العربي" لـ حافظ عبد الرحيم.
ولكن عموماً لم يستمر هذا الانشغال لأن نموذج النخب هو النخبة السياسية، وقد ظلت راكدة منغلقة لعقود في العالم العربي، واستمر الحال إلى حدود 2011، ولقد تواصل ذلك الانغلاق إلى حد الآن في كثير من البلدان، وبالتالي فالبحث العلمي من العسير أن يخترقها ويجعل منها مادة مساءلة.
لكن هذا الموضوع الذي كان دارجاً في الغرب، وأعني علم اجتماع المثقفين والنخب، تراجع بدوره لأسباب عديدة ذكرها عالم الاجتماع الفرنسي آلان توران، وقد تطوّر في المقابل علم اجتماع الممارسات الثقافية، غير أن ذلك لم يجد صداه بحثاً أو تدريساً في تونس، ومن غير المعقول مثلاً أن تظل تظاهرات كبرى مثل أيام قرطاج السينمائية ومعرض الكتاب أو المهرجانات الصيفية الكبرى كظواهر اجتماعية ثقافية دون تحليل أو دراسة، فلا نجد حولها أي بحث في علم الاجتماع.
للأسف حتى اليوم، يبدو الطلبة والباحثون في علم الاجتماع غير معنيين بهذه المشاغل، لا أجد في من أؤطر من يستهويه فهم تحوّلات الذائقة الفنية، وتحليل الجمهور وانقساماته، في حين أن عالم الاجتماع هو صائد جيّد للظواهر، وبالتالي علينا أن نعلّم طلبتنا كيف يصطادون الظواهر، ويحتاج ذلك إلى تهيئة حواسنا السوسيولوجية، إذا صحّت العبارة.
■ مقابل غياب طرح مسائل ثقافية في علم الاجتماع، يوجد مؤخراً تنشّط في التأليف حول المسائل الثقافية، مثل "الأنتلجنسيا التونسية" لـ مصطفى الكيلاني و"السياسات الثقافية" لـ حاتم زير، وكأنه يوجد انتباه مستحدث إلى مسألة كانت مغيّبة، لماذا برأيك؟
- هذا من نتائج وجود فضاء فكري مفتوح وحر، فالاستبداد يحجب مسائل كثيرة، منها طرح موضوع السياسات الثقافية للنقاش. الآن بات من الممكن العمل على تفكيك مقولة الدولة حول الثقافة أو من خلالها، ومنها مسألة السياسات الثقافية، وعلينا أن ننتبه هنا إلى أننا نتحدّث عن تقليد فرنسي بدأ مع وزير الثقافة أندريه مالرو، دون أن تكون السياسات الثقافية - وفق تصوّرها الفرنسي - الخيار الأوحد لإدارة الحياة الثقافية، ففي ألمانيا أو الولايات المتحدة، مثلاً، لا يوجد هذا المصطلح لعدم تدخل الدولة مباشرة في الثقافة من خلال جهاز وزارة الثقافة. السياسات الثقافية تعمل ضمن فرضيات متراكبة منها أن الثقافة عامل من عوامل التنشئة على القيم التي يحتاجها النظام، ووجود دولة مركزية، وافتراض أن المجتمع يتلقى ما تطرحه الدولة ويتأثّر به.
بالعودة إلى تونس، فإن وزارة الثقافة نشأت في ستينيات القرن الماضي أي في أوج ترسيخ هذا الطرح في فرنسا، ناهيك عن أن النخب التونسية كانت في احتكاك مباشر مع فرنسا، فكانت أقرب نموذج للاستلهام في بناء المؤسسة المشرفة على الثقافة في تونس وبدأ العمل بالسياسات الثقافية وما يقتضيه ذلك من تشريع نصوص قانونية، وتوفير الفضاءات الثقافية مثل دور الثقافة وقاعات العرض العمومية، ووجود منشطين ثقافيين، إضافة إلى الخطاب السياسي حول الثقافة وجملة القضايا الكبرى مثل اللغة والدين والهوية، وأخيراً التمويل العمومي للثقافة. وهي جميعاً أشكال لتدخّل الدولة في المجتمع ضمن فرضية أن الدولة هي العقل الثقافي الأكبر.
■ سبق لك أن توليت وزارة الثقافة في مرحلة ما بعد الثورة. في ذلك الوقت، صعدت تعبيرات جديدة كان ينبغي أن تدخل ضمن الخطاب الثقافي الجديد مقابل وجود تقاليد أو تراث تسيير للثقافة في تونس، كيف تعاملتَ مع هذه المعادلة؟
- حين توليتُ وزارة الثقافة، لم أكن غريباً عنها، حيث أن مساري المهني تقاطع معها - كما أشرت - لقرابة 15 سنة من التدرّج الوظيفي، والانتقال بين مختلف إداراتها (إدارة التنشيط الثقافي، المكتبة الوطنية، الديوان الوزاري...). كنت أدرك مسبقاً أنه مهما كان الحرص على التجديد، فإنني قد أجد نفسي منحشراً في نسق له ذاكرته وشبكة قراءته وانتظاراته. ومهما كانت القدرة على مناورة هذا النسق، فإن هامش التغيير ليس واسعاً، ومسألة مثل السياسات الثقافية لم يكن من الممكن الخروج عنها دون أضرار جسيمة.
علينا أن نفكّر في دور وزير الثقافة في مرحلة انتقال ديمقراطي، وتحديداً بعد سنة من سقوط النظام وما صحب تلك الفترة من فوضى وانفلات. أقصى ما يطمح إليه وزير الثقافة في هذا المناخ هو أن يكون حريصاً على انعقاد التظاهرات الثقافية الكبرى في مواعيدها، عادلاً في توزيع التمويل العمومي في سياق يصعب فيه العدل، مقوّماً للفاسد، مع تسوية الملفات التشريعية المتراكمة على غرار القانون الأساسي للمنشطين الثقافيين، وصندوق التشجيع على الإبداع وغير ذلك من المسائل، والالتفات إلى محطات تشبه الشعائر أو طقوس العبور، فنجاح وزير الثقافة يمر حتماً عبر إنجاح التظاهرات الكبرى: مهرجان قرطاج الدولي وأيام قرطاج السينمائية ومعرض الكتاب، وهكذا لا يبقى هامش كبير للتغيير.
■ لو فرضنا أن الدولة في تونس رفعت يدها عما يسمى الدعم الثقافي. ما الذي سيحدث؟ هل تتوقف الثقافة تماماً؟
- مثلك أتساءل عن هذا الركن الركين من السياسات الثقافية في تونس، والحال أنه توجد إمكانيات أخرى لإنعاش الحياة الثقافية. لقد تحوّل التمويل إلى حبل المشيمة بين الدولة والمبدع، ولا بد أن يُطرح هذا الموضوع بجدية ليس فقط من موقع الإدارة أو السياسة، بل أيضاً من زاوية الاقتصاد والجدوى، وهذا يتصل بمبحث أوسع هو حوكمة موارد الثقافة.
لنفكر مثلاً في ما نخسره مع سياسة الدعم حين لا نُحكم إنفاقه، لو تخيّلنا مثلاً للحظة نتائج انسحاب الدولة من التمويل المباشر للثقافة؟ ما الذي سيحدث؟ قد يُتاح لنا تنشيط المؤسّسات المستقلّة التي لن تتكاثر في ظل وجود الدعم؛ لأن مطلقيها لن يغامروا مع توفّر مصدر تمويل أسهل من خلال الدولة، ومن هنا نفهم كيف ساد نوع من الكسل على مستوى المبادرات الثقافية.
في المحصلة، يبدو المضيّ في اعتماد التمويل العمومي كخيار لتنشيط الحياة الثقافية إلى ما لا نهاية مثل تعوّد ممل على انتظار ثدي الدولة وآلية الإرضاع، وهو ما يخلق أحيانا حالات من الخدر في علاقة المثقف بالسلطة وبالواقع، ولعل ذلك يفسّر الكثير مما نعيشه من تكلّس ثقافي وانكماش الخيال الإبداعي. لكن هل يمكن الإقدام على هذا الانسحاب بشكل مفاجئ؟ ففي حال جرى نزع التمويل، وفي غياب ثقافة التسيير الحديثة للمؤسسات الثقافية من قدرة تواصلية على إيصال المنتج الثقافي وقدرة على توفير التمويل، ألا نجد أنفسنا أمام إشكاليات أخرى مثل الوقوع تحت رحمة الإملاءات الأجنبية، وهو ما نعيشه اليوم إلى حد ما، ويخفّفه تدخُّل وزارة الثقافة؟
■ أعود إلى صفتك كعالم اجتماع، ومن خلالها أسأل: كيف ترى أدوار وزارة الثقافة، خصوصاً حين تبدو أحياناً وقد تجنّدت لمهمات أمنية أو غيرها، مثل مقاومة الإرهاب في فترة سابقة؟
- تشير هنا إلى هاجس الدولة الأمني والذي تحاول وزارة الثقافة أن تتدبّره، وقد يكون هاجس الدولة مواجهة الفقر أو ارتفاع الجريمة وإعلاء قيم التضامن كما حدث في سنوات حكم بن علي، وقد أمر بقوة السلطة الوزارات بأن تكون شريكه عن حق أو باطل في تلك المعارك.
المهمة نبيلة ولكن أخشى أن تتحوّل وزارة الثقافة إلى مقاول لهواجس الدولة. لكن أعتقد أن المعركة على نبلها هي معركة المثقفين من خلال تقديم أعمال إبداعية حرة وخلاقة، وليس من خلال برامج موجّهة. لا أعتقد أن من أداور وزارة الثقافة توفير "ما يطلبه المستمعون" بما في ذلك الدولة، وهي أيضاً ليست هذا العقل الجمعي الذي يفكر نيابة عن المجتمع، حتى ولو كانت المعارك نبيلة. لستُ ممن يعتقدون بأن التعليم والثقافة من أذرع الدولة، علينا أن نخلق مناخاً للحرية والإبداع. آنذاك سيختار المثقفون مسالك مقاومتهم خارج أجندات تُفرض عليهم.
■ أخيراً، ماهي القراءات التي تعتبر بأنها ذات أولوية اليوم لفهم واقعنا؟
- لدينا نقص في قراءة المتحوّل ضمن العلاقة الإشكالية بين الشامل والمحلي، أي أن النقص الأساسي الذي أراه هو قدرتنا على الربط بين الاتجاهات الكبرى في تاريخ العالم والتغيّرات القريبة منا. أيضاً سيكون مُهمّاً أن نطّلع على ما يُنجَز ضمن مباحث الهوية والذاكرة وقراءتها دون هيجان أو تهييج. تحضر هنا قراءات أساسية ينبغي أن نعقدها مع تزيفتان تودوروف وبول ريكور وآلان توران ويورغن هابرماس ووائل حلاق وآصف بيات على وجه المثال.
أيضاً، لا بد لنا اليوم من القراءة في اتجاه فهم نظريّ أعمق للتكنولوجيا. لا يمكن أن يغيب عنّا ما يُكتَب في علاقة بالذكاء الاصطناعي والبيانات العملاقة وخلق الحاجات المسبقة، وعلاقة علوم الأعصاب باللسانيات وحتى بعلم الاجتماع، من دون ذلك سيكون مستحيلاً فهم ظواهر مثل الشعبوية، وكيف تخلق الزعامات، وأدوات تحويل الرأي العام.
بطاقة
باحث تونسي من مواليد 1963. أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، وسبق له أن تولى وزارة الثقافة بين 2011 و2014، ويدير حالياً فرع تونس لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". من مؤلفاته: "هل نحن أمة: أزمة النخبة التونسية" (1989)، و"أشرعة وملح.. ثقافة الهجرة السرية" (بالفرنسية، 2010)، كما شارك في كتب جماعية، منها: "العنف اللفظي لدى الشباب"، و"الموسوعة العربية للمعرفة من أجل التنمية المستدامة".