بين رمز مقدَّس ورمز مدنَّس، رمز أسطوري ورمز خرافي، رمز تاريخي ورمز وهمي، رمز مفبرك ورمز مفترض، رمز مكرَّس ورمز مفتعَل، رمز حقيقي ورمز خيالي؛ يبتكر الكثيرون وسائلَ للتموقع في هذا الحراك الهائل الذي يعيشه الشارع الجزائري منذ فترة، حين انتفض من واقعه الملتبس بالهزائم والقنوط والحياة الكسيرة على سلطة تغوّلت بهيبتها ومشروعيتها على المجتمع، وسعت إلى وضعه في نقطة الصفر دون أن تنتبه إلى علامات السقوط والتذبذب والانهيار الذي تجرّه إليه حفنة من المنتفعين المتغلغلين في مفاصل الدولة؛ حيث أغرقته في متاهات الضعف والانحلال والركود والفساد، بعدما استولت على المقدّرات والثروات طيلة فترة تبدو طويلة بالقياس إلى عمر الدولة الجزائرية الحديثة، منذ الاستقلال إلى الآن.
■ ■ ■
قوافل من أسماء وبروفيلات ومجموعات وحسابات مزيّفة وحقيقية وغرف دردشات مغلقة ومفتوحة تظهر وتختفي... وجوه تروح وتجيء، تخرج من هنا وهناك.. من سراديب الفضاء الأزرق ووسائط أخرى، لتصبح بين عشية وضحاها ذات شعبية افتراضية واسعة، تكتب وتحلّل وتقول وتوجه وترسم مستقبل البلاد والعباد.. تطيح بهذا وذاك وترفع هذا وذاك... تقدّم هذا وتؤخر ذلك... تفضح ولا تستر العيوب... تقبض ولا تبسط.. تساير وتنتقد وتقايض وتبتز... تدير معارك وهمية، وتختلق خصومات من عدم، وتعتقد أنها الأجدر بالانتصار والقيادة... تمسرح الأحداث وكل ما يخطر على البال وتجعل منها رأس مال للحضور وكسب الود والتعاطف وكمٍّ هائل من الإعجاب لترفع من رصيدها المعنوي والمادي للأكثر ذكاء في الاستفادة من المزايا التي يمنحها هذا الفضاء الأزرق لروّاده.
■ ■ ■
أصبح لكل اسم عقيدة وخريطة ولغة وكلام ولون وقناعة وشكل، ونفثوا على طول هذه المساحة ثرثرات وسقط متاع وبهتاناً وافتراءات وأكاذيب وقذفاً وهذيانات، والفاجع فيها أنها لا تحمل خزّاناً معرفياً ولا جمالياً ولا روحياً، ولا تؤسس لآفاق الحرية والعدالة والكرامة والحوار والاحترام. وفي كل الأحوال تمتاز بضحالة في الفكر، وقصور في النظر، وضمور في المخيلة. بعض هذه النماذج تلجأ إلى لؤم القيل والقال والتجريح والسب والشتم والفضح والتشهير، وتنتهج مستوى يلامس الحضيض والرداءة والتفاهة والعبث، وترمي بالغث والمقيت والساقط... تذيع وتنشر وتصوّر ما تراه الفيصل والحقيقة والحق، وتضع ذلك كمعايير للتقدم والرقي والأفضل والأحسن.
ما يتفاعل من مواقف ووقائع وأحداث ونقاشات وصور وفيديوهات تتطاير في شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها منذ بدء الحراك، يشير في معظمه إلى أن من يقف وراءها قد يضر بالحراك، إذ بدأت الكثير من القيم المبطنة والغامضة تصطف وتنتظم وتبرز كمؤشّرات تبدو ناعمة ولكنها خطيرة، مثل تصفية الحسابات والعنصرية والجهوية والتشويش ومغالطة الرأي العام ولفت الانتباه لجدالات تبدو في ظاهرها مهمة وجوهرية، ولكن عندما تكشف عن غطائها تجدها مسربلة بتعابير ورغبات دفينة لم تتخلص بعد من الرجعية والجهل والتقليد والعمى، ومن مقدمات خاطئة ورؤى يستوي فيها الكل دون تميز وتقدير للوضع الصحيح، وأصبح محفل الحراك الافتراضي عبثياً وهستيرياً ومجنوناً وعدوانياً وشرساً، كل شيء فيه مباح ومتاح، لا يقبل أي نقد أو تقويم، وميالاً على نحو مفارق إلى صناعة تاريخ آخر مليء بالأوهام والزيف والخداع.
■ ■ ■
ماذا تقول الرموز الزرقاء في هذا الفضاء الأزرق؟ ماذا يعشش في عقولها وأذهانها؟ ماذا تقدّم من معلومات وأفكار وتصورات ورؤى وحلول للمشكلات العويصة التي تعصف بالمجتمع؟ من يقف وراء التسريبات والأسرار وحتى الأمور الشخصية الخاصة التي تعج بها هذه الوسائط وتحتل حيزاً هاماً في بعض الصفحات التي تُدار بكثير من الدهاء ومرات بغباء؟
كيف نحلل، من وجهة نظر بسيكولوجية وأنثروبولوجية واجتماعية، ذوات تلك الرموز التي تضخّمت وتعاظمت وأصبحت آلات تطحن المختلِف والآخر، والسياسي والعسكري والديني والرأسمالي والمثقف والإنسان العادي، وتسكن بيته وتتدخل في خصوصياته؟
هل من اللائق والمجدي أن تتحول هذه الرموز إلى أيقونات وهي تأكل بعضها وتدمّر وتصطاد بالظن والبدع والمنكرات أية نأمة أو حادثة أو حالة أو موضوع ولو كان تافهاً وترفعه إلى أقصى درجات الاهتمام وتسلّط عليه "بروجيكتوراً" ساطعاً لا ينطفئ أبداً وتتركه عرضة للكثير من التجاذبات والتنافرات والتناقضات وتجعل منه علامة تستهلكه وتمص دمه حتى يصبح بدون روح ونفس، وبذلك تعاكس وتخلخل أبسط القيم التي تربّى عليها الإنسان الجزائري، حتى لو كانت هذه القيم تقليدية وبسيطة؟
■ ■ ■
من المؤسف أن تستنفد الرموز الزرقاء قدراتها وإمكاناتها وخيالها في عدم وضوح المساعي التي تلتف حولها ولا في إدراك خطورة الوضع الحالي الذي يتجه إلى مسالك الانسداد والغلق، وفقدان البوصلة والدفع بالمزيد من التوتر والقلق الذي يغلّف الجو ويكتسح العقول والأرواح... فالشارع الجزائري يعيش حيرة ملتهبة ونزوعاً رافضاً لكل حل أو لمن يتقدّم بخطى حثيثة إلى الواجهة... وزادت من حيرته وريبته هذه الحرائق غير المسبوقة التي تشتعل في الفضاء الأزرق ومختلف الوسائط الأخرى، حيث لم يعد بالإمكان التفريق ولا الفصل بين الباطل والحق. أبقته حبيساً وأسيراً لدى هذه الوسائط من الصباح إلى الليل، يبحث عن خريطة لا تضيّعه، وأرضية متماسكة لا تزلزل ما بقي له من روح وإرادة وعقل.
■ ■ ■
نقل الفضاء الأزرق أشخاصاً من العدم إلى الوجود، وخلق الحراكُ الشعبي للبعض اسماً ومعنى وصورة، ووضع على آخرين أقنعة تراجيدية وكوميدية وهزلية، وعلى البعض الآخر أكثر من علامات استفهام وسؤال، وبدّل من نوعية الكلام والقول، وفتح شهية البعض الآخر ليعيث فساداً وتجريحاً في جسد وطن مفجوع بما وصل إليه مجتمعه.
لم يطلق الفضاء الأزرق - إلا في ما ندر - نماذج عميقة تتابع ما يحدث بشغف وتوق وحسّ عال للخروج من هوس الشارع إلى رحابة الآتي الذي يتجاوز ما خلّفته هذه الرموز من عقم وعطالة وشح، ولكنها بدت مغمورة ومطمورة بفعل هيمنة هذه الرموز التي عرفت كيف تقود المجتمع وترضي غروره وتفجّر فيه مكبوته.
■ ■ ■
هل هي زعامات أم فقاعات؟ قد لا ينمحي هذا السؤال ما دام الجواب مستعصياً على الخروج في مواجهة شارع هادر لا يهادن ولم يعد يخاف ما يمكن أن يحمله إليه المستقبل أو ما يخفيه أي جواب.
* كاتب من الجزائر