ملاحظات زمنية

10 سبتمبر 2016
(فرناندو بوتيرو/ كولومبيا)
+ الخط -

ولدتُ لاجئاً، وأمضيتُ عمري لاجئاً، وهأنذا اليوم ـ وقد دار الأفق دورة شبه كاملة ـ أعيش في مخيم أوروبي للجوء.

لقد سهوت عن الكلمة طويلاً، لكنها مثل العَلَقة على بطن الحيوان، لا تبرح.

ثم يسألونك بلسان قشتالي فصيح، وببراءة تغيظ: لماذا أنت يا سنيور، وبعد كل ما حدث لصاحب اللحية، من مُحبيه؟

والجواب ببساطة غير شديدة حاضر: الذي مات هو ملتحي موسكو. ملتحي مخيم خان يونس، باق كما هو، ولم يحدث له أي مكروه. كذلك، في ما أظنّ، ملتحي لندن وبوغوتا.

المكروه سيحدث فقط في حال بدّل المرء قناعاته الثقافية، وصار من أنصار "فلسفة السوق".
[بالمناسبة: دعك من قراءة التاريخ الفلسفي للقارة العجوز، فقد طلُع "فالصو" خالص. ذلك أن "فلسفة السوق" إياها بزّت وحيّدت جميع فلاسفتهم، كانسةً إياهم إلى المتحف: من "سقراط" الإغريق حتى "هابرماس" الجرمان. التاجر دائماً يغلب!]

أمشي في شوارع ههنا وأفكر في الأمر متجهماً، فتباغتني روح المهزلة بالضحك في غير موعدها. ينظر العابرون إليّ نظرة تعاطف، على اعتبار أنني من سكان الطابق الآخر. إنهم لا يعرفون أنني أضحك على حالهم ومآلهم الذي لا يسرّ صديقاً مثلي قدِم إليهم وفي رقبته ألف أمل وألف وهم، فتفاجأ بمصيبة 2008، وفوق ذلك أنزلوه هُم من حالق. وبمناسبة وغير مناسبة ـ حتى في السياقات الشعرية التي بطبيعتها لا تحتمل ـ يذكّرونه بأصل القصة.

طيب، بعد كل هذا، لماذا تريدونني غير شِكِل؟ولماذا لا تتململون حين أقول "لاجىء" وتفعلونها حين أستطرد: "وماركسي"!

لا شبهة استعراض في الأمر، لأني ذاهب إلى السوق والناس "حالقة". فقط أرد عليكم بنفس البراءة التي ترافق سؤالكم. ثم إن صاحب اللحية نفسه، لم يترك خلفه خارطة طريق يُستعان بها، لنتعامل معه كطوطم أو مُخلّص. فالرجل الدنيوي ـ كما تعرفون ـ كتبَ عنها ومات والرأسماليةُ بعدُ في طور "الجنين"، والآن رأسماليتكم المعولمة، شبّت عن الأطواق وتوحّشت، وأظنه لو عاد لاحتار مثلنا في ما يرى من تغوّلها الفاجر.

حين أنسب نفسي إليه، فهذا عبء إضافي على الأكتاف. إذ يتعيّن على أمثالنا أن يكدّوا ويجتهدوا ليتلمّسوا درباً آخر لأنفسهم (كنت كتبتها: "للبشرية"، فخجلت) غير نمط الإنتاج الرأسمالي اللصوصي. (والنعت الأخير ليس من عندياتنا، بل جرى على لسان رمز اليمين الديني في العالم: "البابا فرنسيس" ما غيره. هذا اللاتيني المتنور، الذي أحبه وأخشى عليه من الاغتيال، على أمل أن يولد لنا أمثاله في مؤسساتنا الدينية!).

أربع سنوات في أوروبا ـ "قلعة التنوير"، ومازلت ألاحظ مدى الضيق الخفي حين أصارحهم باتجاهي.

لقد حدث ذات مساء مع زميلتي الإسبانية التي تقاسمني الشقة، أنها تغوّلت في الهجوم على المهاجرين السوريين، بدعوى أنّ لهم "أُنوفاً عالية"، وأنهم "مهاجرون اقتصاديون"، ففاض بي الكيل، ونعتّها بأنها يمينية ودوغما (رغم أن معظم أصدقائها من اليسار) فما كان منها إلا أن ردحت منفعلة، وكأنها تُلقي بتهمة: وأنت شيوعي!
يعني: العين بالعين، والبادىء أظلم.

طيب، أنا، رغم كل ما جرى، أعتبر الصفة شرفاً أكافح كي أدّعيه، وإن كان بحاجة لا إلى ترميم، بل إلى خلق من شبه عدم. فماذا عنك؟

ولما أيقنت أن لغتينا متوازيتان كقضبان السكة الحديد، قنعت بالصمت، فصمتُّ. مزمعاً تغيير السكن، في أقرب فرصة، فأكرمتني الرفيقة آدا كولاو بما أنا فيه.

هذه قصة تحدث مع إنسانة عادية، ويمكن فهمها. بينما العصي على الفهم هو جواب هذا: لماذا يتململ أوروبيون ديموقراطيون محسوبون على الثقافة، من انتسابي لأفضل كاتب سيناريو في التاريخ، كتب عن هذا "التاريخ"؟

المساهمون