إيهاب حسن.. المسكوت عنه في سيرة جميع المصريين

06 مارس 2018
(إيهاب حسن)
+ الخط -

الفترة التاريخية التي شدَّ خيطها إيهاب حسن هي فترة العشرينيات من القرن الماضي، التي تعتبر من أثرى لحظات التاريخ في مصر على مستوى شكل الحياة الاجتماعية في ذلك الوقت، هذه الفترة رغم قلّة تناولها تاريخياً، أو بشكل أوضح تناولها من منطلق مركزي أي وقائع ما جرى في مصر في القاهرة والإسكندرية من الحياة الرغدة والموضة والفن، لكن هوامش هذه المناطق كالصعيد ومنطقة الساحل، وجلّ المناطق البعيدة عن المركز أهملت بشكل كبير. فكان من الملفت أن ينغمس إيهاب حسن في وصف شكل الحياة الاجتماعية فيها كجزء من التاريخ المسكوت عنه.

هذا المسكوت عنه كان غريباً أن يرصده طفل في مرحلة مبكّرة ويُحفر في ذاكرته ليكون شاهدًا وناقدًا في ما بعد على منطق القوة الذي حُكم به الضعفاء والفلاحون. مشاهد تنوّعت بين الجَلد على الأقدام والعقاب بشرب الحساء مغليًا ورفض إزالة الفوارق بين الطبقات بشكل حاسم بالأخص من جانب المثقفين.

كتاب "الخروج من مصر" يعتبر مثالاً لمبدأ كون سيرة الفرد هي جزء من سيرة التاريخ، ولا يمكن تغليب إحداهما على حساب الأخرى، فتورطهما جزء من تورط الجزء في الكل مهما حمل هذا الجزء من خصوصيات؛ يقول إيهاب حسن: "تختلط القصة بالتأمل في هذا العمل، تختلط الشائعة والتدبر والتذكر فليس من اليسير علينا في عالمنا الراهن رؤية أين يبدأ التاريخ وتنتهي السيرة الذاتية".

ومن هذا المنطلق يصعب الفصل بين وصف إيهاب حسن لما هو شخصي وذاتي وبين ما هو تاريخي واجتماعي يخص تاريخ مصر على مدار ستين عامًا (1925 - 1985). حتى أن هذا الامتزاج يشبه مراوغة لفكرة الارتباط البديهي بين التاريخي والشخصي، وهذه المراوغة تبدو لعبة فنية وفكرية للهروب فقط من كل فكرة البديهيات التي يرفضها كمفكر ما بعد حداثي.

إيقاع ايهاب حسن واضح خلال كتابة هذه السيرة، إيقاع غاضب لا يجامل، يكره النبرات الوطنية ويهزأ ويسخر من كل الروايات الرسمية حول التاريخ والوطن والآثار والكولونيالية و"المستعمرون المتحضرون" والكبرياء الزائف و"مصر الخالدة؛ السجع الأقرب ما يكون إلى لعنة".

بدا إيهاب حسن مع هذا الغضب كأنه أحد عُبّاد باخوس، الذي يؤمن بضرورة أن يترك جمهوره في حالة كرب شديد، يسقط عنهم قناع الشوفينية وكل ما يتعلق بأمجاد الماضي والتاريخ، ليضعه فى مواجهة أمام رؤية قد تبدو متطرفة للعالم، لكنها رؤية واقعية ينسجها التاريخ الذي عاشه وعاصره، والنابع من التجربة الفردية والمتجاوز بشكل كبير لكثير من العلائق السياسية والوطنية وفخاخهما.

هذا التجرد من العلائق الوطنية وفخاخها ذهب بإيهاب حسن إلى منطقة السخرية وربما الهدم الذي يشبه الصدمة، كالسخرية من أبو الهول والآثار التي بنيت بالسخرة، والسخرية من الاحتفاليات التي أقيمت على أثر تجوّل قناع توت عنخ آمون في العالم، فخر لا يتسق مع فقر مدقع يعيشه الإنسان المصري خارج هذا التاريخ الذي يُتشدّق به بتعالٍ.

لم يظهر حسن خلال سيرته بمظهر المفكر الما بعد حداثي أو البروفيسور الجامعي أو ابن العائلة المرموقة اجتماعيًا، كان يظهر في سيرة أشبه بسيرة جميع المصريين، كأننا أمام سيرة متكررة لأجيال متتابعة عانت نفس التخبّطات السياسية والجنسية والعقلية والعائلية، أجيال عاصرت كافة التناقضات، وعاشت نفس الرغبة في محاربة الذوبان الذي كان فمه واسعًا وجاهزًا ليلتهم الجميع، وكان أحد أشكال الحرب على هذا الذوبان هو الخروج من مصر.

عند الانتهاء من هذه السيرة يمكننا تذكر تعليق الناقد لسلي فيدلير Leslie Fiedler عام 1951 على السيرة الذاتية "جوال في مدينة"، لـ أفريد كازين، قائلًا: "هذه السيرة ترفض بعناد أن تكون رواية"، فبرغم الحسّ الوصفي العالي داخل كتاب "الخروج من مصر" بلغته الأدبية البعيدة عن التنظير، إلا أن إيهاب حسن يبدو أنه أدرك أيضًا بعناد أهمية أن تظلّ تجربته سيرة ذاتية متخطيًا الهوس العربي بالتصنيف بحسب الأهمية الراهنة.

"الخروج من مصر" عنوان يوهم بالخروج لكنه في الواقع دخولٌ، بل وإسرافٌ في الدخول. فهذا الرجل لم يخرج من مصر وربما مروره على أميركا وميونخ جاء مرورًا عابرًا مثلما جاء عابرًا في سيرته.

هذه السيرة أشبه بمن يود القول لقد ابتعدت خطوات للوراء، وعلّقتُ حياتي في هذا البلد على شكل تابلوهات لأرى تطوري ممزوجًا بتطورها، ولكي أستطيع رؤية كلينا بشكل أشمل وليس لكي أغيّر اتجاه الرؤية.

لإيهاب حسن سيرة ذاتية أخرى، لكن يمكننا القول إنها سيرته الفكرية، وحكاية مشواره النقدي، والتي جاءت تحت عنوان "إشاعات التغيير: مقالات خمسة عقود" (1995)، ويبدو أنه لم يكتف بها كسيرة تترك للباحثين من بعده، ورأى أن سيرته فعلياً لن تكتمل سوى بالحديث عن تجربة العيش الثرية في مصر، فيقرر كتابة "الخروج من مصر" استكمالاً لمشروع كامل من التشكل العلمي والبحثي والإنساني.

كتابة السيرة الذاتية من أعمق التجارب التي قد يخوضها كاتب، تجربة أشبه بالمعركة، خاصة إذا تمت على مستوى عال من التدبر، واستعداد لإعادة صياغة الكاتب نفسه، أو كما يقول إيهاب حسن: "أحب أسماك البحار العميقة والسباحين المتجاوزين والمخلوقات التي تندفع نحو الحدود القصوى لطبيعتها، هناك حيث تنتظر الطبيعة إعادة صياغتها".

المساهمون