تُعتبر "الأيام السعيدة"، التي صدرت مؤخّراً ترجمةٌ عربية جديدة لها عن "دار المدى" بتوقيع محمد آيت حنا، واحدةً من أهمّ ثلاثة نصوص مسرحية كتبها صامويل بيكيت (1906 - 1989) مؤسّساً بذلك لنوع جديد من الكتابة المسرحية أثّرت في تاريخ الأدب والمسرح. وإن كان بعضهم يختصرها بتسمية مسرح أو أدب العبث، إلّا أنّ القراءة المتعمّقة في تلك النصوص تُفضي لاكتشاف عناصر أكثر غنى وتعقيداً.
كما في مسرحيّتيه السابقتين "في انتظار غودو" و"نهاية اللعبة"، تضمّ "الأيام السعيدة"، التي كتبها بيكيت عام 1961، شخصيات مهمّشة يضعُها عجزها على حافة المجتمع والحياة، وعلى حافّة الحدود بين عزلة الذات والرغبة في التواصل مع الآخر. شخصيّتا العمل هما: ويلي؛ شيخٌ في الستّين من عمره، وويني؛ وهي عجوز في الخمسين، تظهر مدفونةً حتى خصرها في تلّ من الرمل. وفي الخلفية، تظهر لوحةٌ تتضمّن إيهاماً بصرياً؛ إذ تمثّل امتداداً بين سماء خالية من الغيوم وسهلٍ عارٍ.
تتكرّر الأفعال المونوتونية في مسرح بيكيت لتأخُذ أكثر من تأويل؛ إذ تُكرّر "ويني" أفعال استيقاظها الصباحي؛ تقول: "يومٌ إلهي آخر"، تُتمتم بصلاة دينية، تخاطب نفسها: "ابدئي يا ويني"، ثُمّ تُخرج من كيسٍ معجون أسنانها، تنظّف أسنانها، تُخرج مرآةً، تُسرّح شعرها... سلسلةٌ من الأفعال اليومية الروتينية التي يَعتبرُها الناقد إيليا حاوي في كتابه "بيكيت في مسرحياته ومسرحه"، محاولةً للاستمرار رغم خواء الوجود وعجز الجسد.
في "الأيام السعيدة"، يتطرّق بيكيت إلى حاجة الإنسان إلى التواصل، إلى إيجاد مستمِع يكون مبرّراً لتروي الأنا عن نفسها، فتتمكّن من التواصل مع الذات، كأن الآخر معبَر النفس البشرية إلى ذاتها: "لو أنّي فقط كنتُ أستطيع أن أتحمّل البقاء وحيدة، أقصد أن أكتفي بثرثرتي، دون وجود روح واحدة تنصت إليّ". تُدرك أنها تثقل على الآخر حين تطلب منه التواصل، لكنها عاجزة عن الاستمرار من دون حضور الآخر.
دائماً ما تشغل بيكيت تلك العلاقة مع الزمن في حياة الإنسان وقدرته على التأقلم والتغيير، تشتكي ويني من أنَّ الأيام تمضي دون أن يُقال شيء، ودون أن يُنجز شيء، ليجد المرء نفسه قد بلغ منتهاه بينما لا تزال ثمّة ساعات أمامه قبل أن يُقرع جرس النوم: "لا شيء ليُقال بعد، لا شيء ليُنجز، أن تمرّ الأيام، بعض الأيام تمرّ، تولي بلا رجعة، والجرس قُرع، جرس النوم، ولا شيء، أو تقريباً لا شيء، قد قيل، ولا شيء، أو تقريباً لا شيء، قد أنجز". في فقرات كهذه تصل مونولوغات الشخصيات إلى مستوى التكثيف الشعري.
في القسم الثاني من المسرحية، نشاهد ويني وقد غرقت في التراب حتى عنقها، ساعداها تحت التراب والكيسُ ما زال هناك، ولكنها عاجزة عن الحركة، لم يبق فيها شيء يتحرّك سوى عينيها اللتين تتطلّعان دائماً إلى الأمام. في هذا القسم، تتأكّد حاجتها المتزايدة للتواصل؛ إنها تصف أخيراً ما هي الأيام السعيدة: "إنها الأيام التي تكون فيها الأصوات، حيث أسمع أصواتاً". تحيلنا الأصوات مُجدّداً إلى فكرة التواصل، لكن الحياة تستمرّ بلا مبالاة بمشاعر الإنسان وحاجاته؛ فالقانون الطبيعي لا يأبه بالإنسان: "قوانين الطبيعة، لم تعُد تلك القوانين كما كانت عليه أيام كنت صغيرة". هذا عن الطبيعة، أمّا الأشياء فلها حياتها الخاصّة المستقلّة تماماً عن البشر: "هذا ما أقوله دوماً، للأشياء حياة. مرآتي على سبيل المثال، إنها لا تحتاجني".
في كتابه "بيكيت، حضور الأدب"، يعتبر جيرار ديروزوا أن الشفقة هي منطلق بيكيت في "الأيام السعيدة"، شفقة نحو شخصيات المسرحية والإنسان بشكلٍ عام؛ فحتى لو كان الوجود بائساً، فلا بد من مواصلة بثّ هذه الإشارات الضعيفة، أملاً في أن يكون هناك من يستقبلها ويردّ عليها.