علي بنمخلوف: لماذا لا نسترجع المنطق؟

28 يوليو 2017
(علي بنمخلوف)
+ الخط -

خلال السنة الجارية، نشر المفكر المغربي الفرنسي علي بنمخلوف (فاس، 1959)، كتاب "الحوار كطريقة عيش" (منشورات ألبان ميشال). غالباً ما تلقّفته القراءات ضمن سياق العلاقة الإشكالية بين الإسلام والغرب اليوم، أو ضمن الأحداث السياسية التي عرفتها فرنسا في 2017، وهي سنة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرّت كل شيء إلى التوظيف السياسي. غير أن متصفّح العمل سيجد نفسه أمام نظرة مغايرة للحوار عبر عودة المؤلف إلى التاريخ والأدب والفلسفة.

في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول بنمخلوف: "في الحقيقة، ليست للكتاب أية خلفية سياسية، غير أنه من المثير أن نرى كيف تصبغ السياقات عملية التقبّل". يضيف: "أردت من هذا العمل أن أُظهر النقاش كشكل من أشكال الاحترام والحكمة، وهو موضوع أثير لديّ انتقلت فيه بين مدوّنات كتّاب أحبّهم، مثل مونتاني ولويس كارول، وتطرّقت فيه لمجالات متنوّعة مثل الرواية وفلسفة اللغة".

قارئ الأعمال الأخيرة لـ بنمخلوف، خصوصاً كتابه "الهوية.. خرافة فلسفية"، أو متابع مواضيع محاضراته التي تهتم بالأخلاق في السياسة أو بمشاغل البيئة والتكنولوجيا، قد يجد أنه كثير الانشغال بالراهن وإشكالياته، غير أن تخصّصه البحثي كان في المنطق، وضمنه صدرت معظم منشوراته، مثل "برتراند رسل.. الذرية المنطقية" (1996)، و"فريدج.. الضروري وغير المجدي" (2002)، بالإضافة إلى إعداد معاجم مصطلحات أبرز علماء المنطق المعاصرين.

كل هذه المؤلفات وضعها بنمخلوف باللغة الفرنسية، فهل أن مثل هذا التخصّص يفرض على المشتغل فيه اللغة التي يستعملها؟ بالرغم من استعماله اللسان الفرنسي حصراً، ينفي في حديثه مع "العربي الجديد"، كون العربية تشكل عائقاً عن البحث في أي مجال من مجالات المعرفة اليوم.

من جهة أخرى، يمكننا أن نلاحظ بأن المنطق هو اليوم تخصّص فلسفي من أقل المجالات الفكرية ازدهاراً في العالم العربي، حيث لا نجد مدوّنة عربية حديثة حوله كالتي تحظى بها اختصاصات فلسفية أخرى، مثل علم الأخلاق والفلسفة السياسية وفلسفة الفن. وضعٌ يعلّق عليه بنمخلوف: "أجد في ذلك مفارقة، ففي التقاليد الفلسفية العربية كان المنطق هو التخصّص المهيمن".

في تفسير هذا التراجع في الاهتمام بالمنطق، يقول: "عرفت بلادنا، من الشرق إلى الغرب، مجموعة من القطائع الحادة، أهمّها القطيعة العثمانية وتلتها مباشرة القطيعة الاستعمارية، وكلاهما وضع المجتمعات العربية في مسالك بعيدة عن الفكر وأشكال أخرى من الإبداع". لكنه في المقابل، يرى "أنه من السهل تنشيط هذا المجال عربياً، ثمة تراث وتقاليد تساعد في استرجاعه، خصوصاً أن اللغة العربية استوعبت في وقت من الأوقات مصطلحات هذا التخصّص، وبالتالي لن تكون بحاجة إلى نقل مجال برمّته وإنما استكمال ما ينقصها اليوم".
يظل كتاب "لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟" ("ألبان ميشال"، 2015)، أشهر إصدارات بنمخلوف، حيث لقي اهتماماً تجاوز الأوساط النخبوية في فرنسا. العودة إلى الفلاسفة العرب قد لا تكون في بلادنا العربية أمراً مثيراً، إذ جرت استعادتهم مراراً وتكراراً في العقود الأخيرة، غير أن كتاب بنمخلوف موجّه إلى القارئ العربي في الوقت نفسه الذي يتوجّه فيه إلى الجمهور الفرنسي.

يقول مؤلّفه: "وضعت إشارة بهذا التوجّه المزدوج في العنوان الفرعي؛ (التراث المنسي)، حيث إن قراءة الفلاسفة العرب هي دعوة موجّهة إلى الفضاءين الأوروبي والعربي، فما تركه هؤلاء الفلاسفة هو تراث مشترك، غير أنه مهملٌ في كلا الفضاءين؛ في البلاد العربية نظراً لقصر الفلسفة على ما هو إسلامي، وفي الغرب لأن الخطاب الفلسفي الرسمي يعتبر أن لحظة ديكارت كانت استئنافاً للفلسفة الإغريقية، أي أن ثمة تعامياً/ تعالياً عن المراحل التاريخية التي مرّت منها الفلسفة خارج أوروبا".

يرى بنمخلوف أن عمله يقدّم طروحات راهنة، فمثلاً "كان الكندي وابن سينا نماذج لمتفلسفَين يعملان على إمكانية ممارسة الفلسفة في إطار ثقافي مهيكل دينياً، وهذا مشغل راهن في العالم العربي". يهدف العمل من جهة أخرى، بحسب بنمخلوف، إلى "إثبات أن ثمة تاريخاً للحقيقة يخترق الشعوب والحضارات، حيث ظلت الحقيقة (أو مطلبها) تتقدّم أدواتها من حضارة إلى أخرى، وكما أن الإرث العربي أفاد أوروبا فإن العرب استندوا إلى الفكر اليوناني وغيره من الروافد الحضارية".

اللافت أن هذا الكتاب، رغم طابعه التراثي، يلتقي مع انشغالات بنمخلوف الراهنة مثل مسائل الطب الحديث، حيث يستعيد ابن سينا من هذه الزاوية، وهذه الانشغالات كلها (فلسفة إسلامية، طب، منطق..) يرى المفكر المغربي الفرنسي أنها تبدو متباعدة غير أنها تلتقي في أكثر من نقطة، وتمثل كل واحدة خلفية تفكير في الأخرى.

في السنوات الأخيرة، يلاحظ متابع بنمخلوف بسهولة أنه على عكس الكثير من المشتغلين بالفلسفة كثير الحضور في الفعاليات الثقافية، سواء تعلقت بالفكر مباشرة أم بمواضيع سياسية واجتماعية وعلمية، كما يشارك في مؤسسات عمومية مثل "اللجنة الفرنسية الاستشارية حول الأخلاقيات" أو يساهم في تنظيم فعاليات مثل "اليوم العالمي للفلسفة"، في فرنسا وفي بلده الأصلي المغرب حيث يحاضر هناك بوتيرة تكاد تكون شهرية.

عن ذلك يقول: "أجد في المغرب رغبة في النقاش والمعرفة، ثمة فئة تتوسّع باتت تنشغل بالقضايا والإشكاليات التي ينشغل بها العالم، من المواضيع الدقيقة للفلسفة إلى مستقبل البشرية، بالإضافة إلى تناول فكري لقضايا المغرب الداخلية، وهذا أمر جيّد". يضيف "أنا أؤمن بالنقاش في الفضاء العام، ثمة حميمية تولّد الأفكار".

هذا النشاط المتنوّع لدى بنمخلوف في بلده المغرب يقابله شبه غياب في بقية الساحة العربية. وهو غياب يمتد إلى مستوى آخر، إذ لم يُترجم إلى العربية من 16 مؤلفاً صدرت له إلى اليوم أي كتاب. يكشف صاحب كتاب "الفارابي.. التفلسف في بغداد القرن الخامس"، أن هذا الوضع بصدد التغيّر الآن، باعتبار أن ثمة مشاريع جاهزة لترجمة كتابين له أحدهما سيصدر بداية السنة المقبلة ضمن "معرض القاهرة الدولي للكتاب". يقول بشيء من المزاح "لا زلت حياً كي نقول بأن ترجمتي إلى العربية تأخّرت".

لا يردّ بنمخلوف عدم وصول أعماله إلى العربية إلى تفسيرات لغوية تقول إن لغة الضاد اليوم يصعب عليها استيعاب بعض المجالات المعرفية، مشيراً إلى أن وجود ما هو غير قابل للترجمة ليس سوى دعوة لكي تتجاوز لغةٌ ما نقائصها. يضيف "العربية لغةٌ يمكنها أن تترجم كل شيء وأن تفكّر في كل شيء، المشكلة متعلقة بالنسق الذي نترجم به، وكلما ترجمنا أكثر أثرينا لغتنا وبالتالي أصبحت مساحة التفكير أكبر فيها".

دلالات
المساهمون