نيكولا أديل.. توزيع غير عادل للمعارف

18 اغسطس 2019
نيكولا أديل في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

على تعدّد مساراتها واهتماماتها اليوم، ظلّت الأنثروبولوجيا رهينة تاريخها، فقد كانت استعمالاتها - لأغراض استعمارية وعنصرية خصوصاً - مدخلاً للتشكيك في خطابها وأدواتها، وهو وضع بات يعيق البحث الأنثروبولوجي ذاته. ورغم أن الأنثروبولوجيين كانوا في طليعة منتقدي مجال اختصاصهم، إلا أن ذلك لم يغيّر كثيراً من الصورة المكرّسة. فكيف يجابه الأنثروبولوجيون اليوم هذا الواقع؟

يمثّل الباحث الفرنسي نيكولا أديل أحد الأنثروبولوجيين الجدد (مواليد 1978)، وهو يرى في لقاء له مع "العربي الجديد" أنه "لا يكفي تقديم نقد لأخطاء الأنثروبولوجيا وتعرية توظيفاتها، وإنما ينبغي إنتاج خطاب علمي داخلها مختلف عن ذلك الذي جرى انتقاده لأسباب شتى، أي من خلال بناء مواضيع ومنهجيات تقوم على حسّ إنساني مشترك وعلى أخلاقيات علمية متفق عليها".

من زاوية أخرى، يعتبر أديل أنه "من غير الممكن أن تتوقّف الأنثروبولوجيا، لا بسبب مقولات منتقديها ولا لأي سبب آخر، فهي أداة معرفية ابتدعها العقل البشري الحديث ضمن حاجة لفهم ظواهر تفرض نفسها على الدرس، وهو يطوّعها لحاجياته المتحوّلة، تماماً مثل علم النفس أو الاقتصاد وغير ذلك من المعارف، فإذا كانت الأساطير أو عادات الدفن مواضيع رئيسية في القرن التاسع عشر، فإن الأمر لم يعد كذلك اليوم حيث تصعد إشكاليات أخرى بحيث أصبحنا نجد أن التحوّلات التكنولوجية في الغرب قد أصبحت مشغلاً أساسياً لدى الأنثروبولوجيين".

هذه القراءة تتناغم مع تخصّص أديل، أنثروبولوجيا المعارف، حيث أنه يشتغل على علاقات المعرفة بالمجتمع، وفي ذلك وضع كتاباً بعنوان "أنثروبولوجيا المعارف" في 2011، أصبح منذ ذلك التاريخ مرجعياً في إطاره.

عن هذا العمل، يقول: "إذا كانت المعرفة موضوعاً مشتركاً بين كثير من المجالات العلمية، فإن للأنثربوبوجيا رؤيتها الخاصة، فمثلاً تنشغل الفلسفة بشروط المعرفة من أجل تحديد ما هو معرفة وما هو خارجها، فتقصي بذلك نماذج معرفية عدة مثل السفسطة والشعوذة والفكر الديني، غير أن الأنثروبولوجيا تأخذ ما هو معرفي انطلاقاً من الإنسان، وبالتالي فإن أي شيء يعتقده الكائن البشري تُدرجه ضمن المعرفة وتجعل منه موضوعاً للدرس". يضيف: "من منطلق الأنثروبولوجيا، نقف حيال إشكالية عميقة في علاقتنا بالمعرفة، وهي كيف يؤثّر الإنسان في المادة المعرفية، في إنتاجها وفي تداولها وتقبّلها".

وإذا كان هذا العمل تنظيرياً في الأساس، فإننا نجد في كتاب "ما يفعله العلم بالحياة" ما يشبه تطبيقاً له، وهو عمل جماعي أداره أديل مع زميله جيروم لامي، وكان سؤاله الرئيس: كيف أن المعرفة العلمية تتأثر بحياة منتجيها؟ وهي قراءة تأتي على عكس تياراتٍ كثيرة خصوصاً تلك التي تجعل من العلم فضاء محكوماً بمعادلاته الخاصة بعيداً عن النوازع البشرية. وهذا الطرح يخلخل إلى حدٍّ كبير ذلك التقسيم المعروف بين العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية. كما يدرس هذا العمل الاتجاه المعاكس أي تأثير النتائج العلمية على حياة مكتشفيها، خصوصاً في الحالة التي تتحوّل فيها إلى مكانة اجتماعية وأكاديمية، وبالتالي فنحن إزاء عملية ترجمة للعلم إلى أداة سلطة.

لا تمثّل أنثروبولوجيا المعرفة الفضاء الوحيد الذي يتحرّك داخله أديل ضمن الاختصاص الأوسع للأنثروبولوجيا، حيث أن جزءاً كبيراً من مساره البحثي قد خصّصه لدراسة المهن وتناقل الخبرات بين الأجيال، وكذلك اهتم بالاختلافات الجندرية (كتاب "الوجه والقناع"، 2015)، وشارك في أعمال جماعية حول تاريخ الأنثربولوجيا والعلاقات الأسرية وغير ذلك من المواضيع.

يعتبر أديل أن هذا التنوّع هو جزء لا يتجزّأ من المقاربة الأنثروبولوجية، فلا يوجد موضوع قابل للدراسة بأدوات اختصاص بعينه، فـ "تعدّد الاختصاصات وتداخلها جزء من البحث الأنثروبولوجي، وليست كما يبدو في تخصّصات أخرى مجرّد بُعد إضافي تكيميلي". يضيف: "حتى تعدّد الاختصاصات يكاد يكون غير كاف في وضعيات بحثية عدة، حيث ينبغي أن نفهم اشتباكات الظواهر في ما بينها، مثلاً هل يمكن اليوم دراسة ظاهرة اجتماعية دون الأخذ بالاعتبار إشكالية الهوية أو السلطة؟".

بشكل عام يبدو أديل متفائلاً بمستقبل الأنثروبولوجيا، فهي تسعى "إلى المسك بالراهن في تحوّله وسيَلانه المستمر، مقدّمة مرايا لكل الفئات الاجتماعية على الرغم من قلة جماهيريتها، وهي بذلك تمسح كل ما يتعلّق بالإنسان، وهذا مشروع لا نهائي طرحته الأنثروبولوجيا على نفسها لتكون مثل موسوعة جماعية وليس لها سوى أن تتقدّم إلى ما لا نهاية".

في ختام حديثه، يعترف أديل بأنه من الصحيح القول بأن إنتاج المعرفة الأنثربولوجية "غير موزّع بشكل عادل على العالم، حيث أن 90 % منه ينحصر بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، لكن توجد مؤشرات بأن الأنثروبولوجيا بصدد التلوّن مع مرور الزمن، كما أنها تتنوّع أكثر فأكثر على مستوى المواضيع وميادين البحث، وهي بالتالي بالنسبة لي أصبحت أجمل فأجمل".

المساهمون