صدر قديماً: "جماعة أبولو" إلى غير عودة

26 يونيو 2019
(عدد من شعراء "جماعة أبولو" في القاهرة، 1935)
+ الخط -

نشطت في ثلاثينيات القرن العشرين، وتحديداً بين العامين 1932 و1934، مجلّة مصرية معنية بالشعر أطلق عليها مؤسّسها أحمد زكي أبو شادي تسمية "أبولو"، تجمّع حولها عددٌ من الشعراء العرب في جوّ "لا يستطيع فيه الشاعر أن يتحدّث إلّا عن نفسه وأحلامه وغرامه وأشواق روحه، أو أن يهرب من الجحيم الذي يحيط به إلى الطبيعة ومناظرها"، على حدّ تعبير الناقد محمد مندور (1907 - 1965).

ولكن الشاعر المؤسّس لم يكن يسعى إلى شيء من هذا بقدر ما كان حالماً كبيراً يسعى، حسب كلمته التي افتتح بها العدد الأول من المجلّة، إلى التنبيه إلى "الحاجة لمثل هذه المجلّة للنهوض بالشعر العربي وخدمة رجاله والدفاع عن كرامتهم وتوجيه مجهوداتهم توجيهاً فنياً سليماً". أمّا النزعة العاطفية التي لحظ مندور طغيانها على عدد كبير من الشعراء الذين ظهروا في تلك الفترة، ولم ير فيهم إلّا قائل شعر من "وراء الغمام" ومنشد "ألحان ضائعة" ومستنشق "أزهار ذكرى" وسابحاً في "زورق حالم" ومرسل "أنفاس محترقة"، فلم يكونوا إلّا ومضات في مهرجان زاخر يمتدّ على مساحة الوطن العربي فيه من هذا ومن ذاك.

فتحت المجلّة صفحاتها لشتّى التيارات، واحتضنت الجماعةَ التي التفّت حولها دورقاً من كل مشرب، فمنحت رئاستها في البداية لأحمد شوقي، قبل رحيله بثلاث سنوات رغم خياره التقليدي في الشعر، ثم نقلتها إلى المجدّد خليل مطران القادم من الشام، ونشرت للعراقي والتونسي والمغربي والبحريني وغيرهم، بمعنى أنها كانت حركة وامضة جامعة، تجد فيها بقايا من شعر الإحياء التقليدي وشذرات من محاولات التجديد في الألفاظ والأوزان، وتجد فيها فوق كل هذا نزعة إلى التحرُّر هي جزء من تيار سيكون له تأثيره في عدد من العواصم العربية.

وقد أحسن الناقد المصري عبد العزيز الدسوقي (1925 - 2015) توجيه النظر إلى آفاق أبعد وأشمل لشعراء هذه الجماعة في كتابه "جماعة أبولو وأثرها في الشعر الحديث" الصادر في عام 1960، بعد ما يقارب أربعة عقود من توقف المجلّة عن الصدور، وهجرة صاحبها إلى الولايات المتّحدة. فتتبّع كتابه الضخم نسبياً (قرابة 600 صفحة) تيارات التجديد ومعاركها الأدبية/ السياسية وأبرز ممثّليها منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.

ينطلق الكتاب، الذي كان في الأساس محاضرات أُلقيت في "معهد الدراسات العربية العالية" بالقاهرة، ممّا يُسمّى عصر الإحياء أو النهضة، حيث نشأت الجمعيات الأدبية مثل "جمعية المعارف" لإبراهيم المويلحي، و"جمعية إحياء الكتب العربية" القديمة لمحمد عبده.

ويمنح محمود سامي البارودي (1839 - 1904) لقب "باعث شعرنا الحديث"، مع إضافة أن أثره الذي امتدّ في بعض الشعراء الذين عاصروه وعاشوا بعد موته، فتكوّنت الحركة الشعرية التي يطلق عليها "حركة التقليد"، ومن رموزها أحمد شوقي الذي يرى فيه "شاعراً تقليدياً لم يعبّر عن وجدانه الخاصّ إلّا في القليل النادر من شعره"، وحافظ إبراهيم "الذي يعبّر عن رغبته في التجديد ولكنه لا يمارسه ولا يعرف كيف"، ومحمد عبد المطّلب "الذي استوحى في شعره ريح الصبا ونجد والأراك والغضا واستنزل الغمام"، وآخرون يرى الدسوقي أنهم في جملتهم شعراء تقليديون "يكتفون بالتعليق على الأحداث كما يفعل الصحافيّون في مقالاتهم السياسية والاجتماعية.. وهذا النوع من النظم مهما ارتقى في الصناعة، فإنه لا يضيف إلى تراثنا الشعري ثروة جديدة ولا يخصب تجاربنا الشعورية".

ومع عودة النشاط إلى الحراك الاجتماعي/ الثقافي، ومع انتعاش الحركة الوطنية مع مطلع القرن العشرين، بدأت تظهر بوادر التجديد على يد جيل جديد من الشبّان "استجابوا لهذه الأحداث وتأثرّوا بها داخلياً"، و"دفعتهم ظروف حياتهم إلى العودة إلى نفوسهم يتأمّلونها، وينظرون إلى المصير الذي يتربّص بهم، وهذا هو السر في أن حركتهم كانت حركة ذاتية وجدانية، وهذا ما جعل شعرهم يتّجه إلى الفكرة والتأمّل الفلسفي والصوفي ويُطيل النظر في الكون والحياة والمصير".

يكاد هذا التوصيف أن يكون شاملاً لحركة التجديد بكل تنوّعاتها التي "اهتزّ أمام نقداتها عرش الشعر التقليدي اهتزازاً عنيفاً"، وخاصة انتقادات "جماعة الديوان"، نسبةً إلى الكتاب الذي أصدره العقّاد والمازني عام 1921، وشرح فيه العقّاد منابع التيار التجديدي، وقال فيه عن شوقي، مثال التقليديين، إن "فيه ارتفع شعر الصنعة إلى ذروته العليا وهبط شعر الشخصية الذي لا تبنيه لمحة من الملامح ولا قسمة من القسمات التي يتميّز بها إنسان بين سائر الناس... وليس هذا بشعر النفس الممتازة ولا بشعر النفس الخاصّة".

وبرزت شخصية الشاعر الشامي خليل مطران (1871 - 1949) كرائد لحركة التجديد التي تبلورت في حركة جماعة "الديوان"، ثمّ في حركة "جماعة أبولو"، فالشعر العربي في المهجر.

ومع أن الدسوقي يقول إن "ظروف حياة مطران هي التي اقتضته أن يكون مجدّداً"، ويُرجع أسباب منحه لقب "رائد التجديد" إلى عوامل مثل "دماثة خلقه ولين جانبه وأصالته النفسية" و"التطاحن بين الأدباء الذي جعل النقّاد والشعراء الجدد يلوذون بكنف مطران" و"احتفاء جريدة الأهرام به.. وتقديمه والإشادة بعبقريته"، إلّا أن قراءة حديث مطران في مقدّمة ديوانه (1908)، والذي يمكن اعتباره "بياناً شعرياً"، تُظهر أهمّ مبادئ التجديد الشعري الحديث، مثل الوحدة العضوية للقصيدة، والتحرّر من القافية الواحدة، وما إلى ذلك.

أمّا المعارك الأدبية بين المجدّدين، مثل معركة العقّاد والمازني مع عبد الرحمن شكري بعد أن اتهم المازني بسرقة قصائد من شعر الإنكليزي شيلي، أو وصف العقّاد "جماعةَ أبولو" بأنهم "أنذال وأوشاب من السوقة ومنكوبون وأدعياء"، فيرجعها الدسوقي إلى الظروف السياسية، فهي كما يقول "السبب في كل هذه المعارك وكل هذا النزال"، ومعنى هذا "أنه لم يكن هناك من قضية ثقافية أو شعرية يختلف عليها في قلب هذه التيارات، ولولا السياسة لما حصلت معارك بين المجدّدين".

ويلاحظ، ربما لهذه الأسباب، أن "حركة التجديد (أبولو) قد طمست تقريباً في مصر... ولم يستطع التجديد أن يتطوّر، وطموحات أبولو أن تستمر، إلّا حين انتقلت إلى أرض أخرى، إلى لبنان والعراق. وبشعراء من هذين الوطنين استطاعت حركة الشعر الحر أن تتقدّم".

وفي الكلمة الأخيرة التي ودّع فيها أبو شادي مجلّته وجماعته وهاجر، إشارةٌ واضحة إلى هذا. جاء في كلمته (1 ديسمبر/كانون الأول 1934): "ربما ختمنا بهذا العدد الممتاز المجلّد الثالث من هذه المجلّة، كما نختتم بختام هذه السنة جميع جهودنا العامة إلى غير عودة... المعاكسات المتنوّعة والإساءات الجمّة التي أصابتنا من الحكوميين ومن غيرهم فاقت كل حدود الاحتمال".


ـــــــــــــــــــــــــــــ
نقد وتأليف
قرابة عشرين كتاباً تركها عبد العزيز الدسوقي تنوّعت بين النقد والتأريخ والأدب؛ من بينها: "ملامح القصّة في مصر" (1947)، و"تاريخ النقد العربي الحديث" و"تطوّر النقد العربي الحديث في مصر" (1977)، و"في عالم المتنبّي" (1981)، و"مدرسة الديوان وأثرها في الشعر" (1996)، و"الرماد" (قصص/ 1946)، و"دموع الراهب" (مسرحية/ 1948)، و"من سفح الحياة" (شعر/ 1950)، و"سقوط الزمن" (رواية/ 1970).

المساهمون