"العْصير" أو هدر الوقت في المغرب

29 أكتوبر 2017
مع نرجيلته يقضي هنا معظم وقته (فليكر)
+ الخط -

في المغرب، شبّان يسندون ظهورهم إلى الجدران في أحياء عدّة، وآخرون يجدون سلواهم على كراسي المقاهي، وشابات يقضينَ ساعات طويلة عند مصفف الشعر وفي صالونات التجميل أو لا يملُلن من الحديث على الهواتف الذكية والدردشة عبر وسائط التواصل الحديثة، ونساء يمضينَ أيامهنّ في الثرثرة ورجال كبار في السنّ يُفنون وقتهم في لعب الورق أو "الضامة" (الدامة).

نماذج مواطنين مغاربة من مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية يهدرون وقتهم، في ظاهرة يُطلَق عليها في البلاد "العْصير"، ومعناها تضييع الوقت في أمور غير مفيدة، من أجل تمضيته فقط. وهذه الظاهرة الاجتماعية الآخذة في الانتشار، هي بمثابة "عصر" للوقت مثلما تُعصَر الفواكه.

إلى ذلك، "الحائطيّون" أو "الحيايطية" هو وصف يطلق في المغرب على شباب ومراهقين لا يفارقون جدران الحيّ، فيتكئون عليها أو يجلسون إلى جانبها ساعات طويلة من دون كلل. هكذا يقضون اليوم كله في "الحضْية" أي مراقبة المارة واقتفاء خطواتهم وتتبّع الداخلين إلى الحيّ والخارجين منه.

مراد (17 عاماً) ابن حيّ دوار الحاجة في ضواحي العاصمة الرباط، يخبر أنّه ينهض عند الحادية عشرة صباحاً، ولا يجد ما يفعله بعد الفطور سوى الخروج إلى رأس الدرب ليقف مع رفاقه ويتجاذبوا أطراف الحديث، أو من أجل اللهو "العْصير" ومراقبة تحركات الفتيات وذهابهنّ وإيابهنّ من بيوتهنّ وإليها. ويعزو مراد انغماسه في "العْصير" إلى عدم توفّر مساحات وملاعب خاصة لممارسة الرياضة أو أخرى يتمكّن فيها مع رفاقه من ممارسة هواياتهم في الحيّ الشعبي الذي يقطنه. يضيف أنّه وسط هذا الفراغ والتهميش، ولأنّه ترك المدرسة مبكراً بسبب ظروف عائلته، لم يجد بُداً من "عصر الوقت عصراً" بالجلوس عند الحائط.

حسن (21 عاماً) شاب "حائطيّ" آخر، يقول إنّ البطالة التي يعيش فيها هي التي تسبّبت له في هدر الوقت وتمضيته مع "أصحاب الدرب" في "الكلام الفارغ والممل"، بحسب وصفه. هو لم يكد يبلغ مستوى البكالوريا، ولم ينجح في إيجاد عمل مناسب على الرغم من أنّه طرق أبواباً عدّة، فتعب قبل أن يجد مكانه بين "رفاق الحومة".

وفي المقاهي المغربية، يكثر هدر الوقت وفق أسلوب "العْصير" بطريقة لافتة، فكثيرون هم الرجال والشباب (ذكوراً وإناثاً) الذين يقضون يومهم وليلهم هناك في الثرثرة والمزاح والضحك، ولا يجمعهم سوى هدر الوقت في أمور من دون فائدة. فتتكرر أيامهم بهذه الطرقة حتى إشعار آخر.




مريم (23 عاماً) درست التاريخ في جامعة الرباط، لكنّها لم تجد وظيفة في القطاع العمومي. تقول إنّه في حال بقيت في المنزل، فإنّ انتقادات والدتها سوف تكثر وكذلك سخطها من جلوس ابنتها من دون عمل. فكان الحلّ العثور على "شلّة" من زملاء الجامعة واختيار مقهى مفضّل في وسط الرباط.

وإذا كانت مريم لم تعثر على وظيفة تناسبها على الرغم من شهادتها الجامعية، فوجدت في "العْصير" مهرباً من مراقبة الأسرة وملاحقتها بسبب بطالتها، فإنّ لبنى (17 عاماً) التي كانت تجلس على الكرسي المجاور لكرسي مريم في ذلك المقهى، لم تكمل دراستها واختارت هدر وقتها برفقة ذلك الشاب الذي وعدها بالزواج، لكنّه لم يفِ بوعده بعد.

على مقربة من لبنى ورفيقها، تجلس فتيات بعمر الزهور ويدخنَ "الشيشة" (النرجيلة) على مدى ساعات من دون ملل. ويصف المهدي، وهو نادل في المقهى، جلوس هؤلاء الفتيات بالمقهى واستهلاكهن النرجيلة بأنّه "مهنة في حدّ ذاتها بالنسبة إليهنّ"، مضيفاً أنّ الأمر يرتبط بنوع من التسلية وملء الوقت الفارغ في حياتهنّ. ويتابع: "لو كانت لديهنّ أشغال ومسؤوليات لما كنّ هنا".

في السياق، تقول الباحثة في علم الاجتماع ابتسام العوفير إنّ "انغماس الشباب، ذكوراً وإناثاً، في تدخين الشيشة أو السجائر أو حتى لفافات الحشيش، هو بمثابة تعويض نفسي واجتماعي عمّا يعانونه من فراغ روحي وذهني وفي القيم كذلك". تضيف أنّ "ظاهرة العْصير لا تفرّق بين فقير وغني، أو بين جاهل ومتعلم. فهي قد تصيب كلّ شخص في المجتمع لم يحسن تدبير الوقت واستغلاله بما يعود عليه بالترقية الاجتماعية والقيمية".

وتشير العوفير إلى أنّ "ثمّة نوعاً آخر من تمضية الوقت في العْصير داخل المجتمع المغربي، وهو غرق الرجال والنساء على حدّ سواء في الهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي الجديدة مثل واتساب وفيسبوك وغيرهما". وتتابع أنّ "دراسة سابقة أكّدت أنّ المواطن المغربي يستعمل هذه الوسائط 51 ساعة في الأسبوع الواحد، أي أكثر من الساعات التي يقضيها أسبوعياً في العمل".

كبار السنّ كذلك لهم "عْصيرهم" الخاص الذي يختلف عن "عْصير" الشباب، إذ يلزمون المقاهي وهم يتحدّثون عن الماضي البعيد وعن ذكريات الحروب والمعارك وملحمة الاستقلال، بينما يقضي آخرون وقتهم في لعب "الكارطة" (لعبة الورق) أو النرد، أو "الضامة" التي تشبه الشطرنج، وذلك في حلقات صغيرة في المقاهي الشعبية أو في بعض الأماكن الخالية أو على مقربة من المحال التجارية.