كلما هدأت الأوضاع في محافظات العراق، تنفس السكان وبات بإمكانهم العودة إلى تعايشهم المعتاد، فهو دأبهم منذ عقود طويلة وربما قرون، لا سيما على صعيد الزواج المختلط الذي تشكل محافظة ديالى نموذجاً بارزاً له
في محافظة ديالى العراقية التي تبعد 57 كيلومتراً إلى الشرق من العاصمة بغداد، تشير ألقاب وأسماء السكان إلى تنوعٍ في الأصول والمعتقدات لطالما شكل ميزة لها ولمحافظات أخرى. هناك، يمكن سماع أكثر من لهجة ولغة، ففيها التركمان الذين يتحدثون التركية، والأكراد الذين يتحدثون الكردية، ومسيحيون يتحدثون السريانية بالإضافة إلى المسلمين العرب الذين تتعدد لهجاتهم في هذه المحافظة أيضاً تبعاً لأصولهم.
من الصفات المتعارف عليها في هذه المحافظة أنّ الاختلاط بين القوميات والمذاهب سَهّل من الزواج في ما بينهم، وهذا ما كان يحصل منذ سكن الناس في هذه البقعة من العراق، لكنّ الفترة التي أعقبت الغزو الأميركي عام 2003، والتي يصفها كثيرون من سكان المحافظة بـ"المظلمة" قللت من عدد هذه الزيجات، لتعود مجدداً إلى سابق عهدها، في تأكيد على أنّ الأحداث الطارئة لن تغير من ترابط الناس في هذه المحافظة، بحسب عدد من وجهاء وأعيان قبائلها، منهم الشيخ مزهر العزاوي، الذي يتحدث عن عشرات الزيجات التي كان مدعواً إليها، منذ منتصف العام الماضي. يضيف العزاوي لـ"العربي الجديد" أنّ في قبيلته وهي من القبائل العربية المسلمة التي يعرف عن غالبية أبنائها أنّهم من الطائفة السنية، العديد من الزيجات المختلطة، مبيناً أنّ زوجته كردية، وأنّ صغرى بناته تزوجت العام الماضي من شاب تركماني، وأخريات وآخرين من المعارف تزوجوا من قوميات مختلفة، مشيراً إلى أنّ "هذه الزيجات لم تكن لولا أنّ محافظتنا تشمل خليطاً". يواصل أنّ "الاختلاط القديم لسكان المنطقة أزال الحواجز بينهم"، واصفاً هذا الاختلاط بأنّه "نعمة من الله. فبسببه ينفتح الناس على طبيعة وثقافات وعادات فئات أخرى من المجتمع وهذا لا يتوافر في كثير من المحافظات العراقية التي غالباً ما يكون سكانها من قومية واحدة ودين ومذهب واحد".
ما عاشته محافظة ديالى في سنوات ماضية يعدّ من "أبشع" الحقب التي مرت بالمدينة وسكانها؛ فالعنف الطائفي أجج "فتنة كبرى" كادت تطيح بالعرف السائد الموروث للسكان، بحسب إسماعيل حمه قادر، وهو كردي يسكن مدينة بعقوبة، مركز ديالى. ففي فترة اندلاع الفتنة الطائفية في البلاد بين عامي 2006 و2009، كانت المدن والمناطق التي تميزت بوجود سكاني من قوميات ومذاهب مختلفة أكثر تضرراً، إذ برزت مليشيات مسلحة تمارس العنف من خطف وقتل على الهوية العرقية والطائفية، الأمر الذي تسبب بمقتل وتشريد أعداد هائلة من العراقيين في مدن مختلفة.
حمه قادر، وهو من وجهاء الأكراد في بعقوبة، يتحدث إلى "العربي الجديد" عن تلك الفترة باختصار، فيصفها بأنّها "بشعة لم يشهد تاريخ المحافظة مثيلاً لها على مر السنين. فالعنف الذي مررنا به كسكان أجج فتنة طائفية كادت تطيح بكلّ الموروثات الجميلة التي تمتاز بها المحافظة". يؤكد أنّ "كلّ شيء اتضح لاحقاً وتبين أنّ المسألة تتعلق بخلق فتن وأزمات يقف وراءها ضعاف نفوس، ليمدّوا نفوذهم في مناطقنا فضلاً عن أهداف سياسية نحن في غنى عن ذكرها". وفي تأكيده على أنّ سكان ديالى عادوا إلى طبيعتهم في ممارسة حياتهم، وأنّ "الفتن الطائفية" لم تؤثر على موروثاتهم، يلفت حمه قادر إلى أنّه كان مدعواً بصفة شاهد على عقد قران ابن جاره الشيعي على ابنة جار آخر له من التركمان السنة.
جامعة ديالى التي تحتضن طلاب المحافظة من مختلف أطيافهم فضلاً عن طلاب من محافظات أخرى، فيها العديد من القصص التي تؤكد أنّ ترابطاً وثيقاً يجمع سكان ديالى، خصوصاً تلك التي تجمع طالباً وزميلته لتؤسس قصة حبّ تنتهي بالزواج. يبوح محمد مرتضى لـ"العربي الجديد" بـ "حب جارف" لزميلة له، وعلى الرغم من أنّهما ينتميان لعائلتين تختلفان في القومية والمذهب لكنه يؤكد أنّ حبهما "سيجرف كلّ العقبات". محمد وهو كردي فيلي (شيعي)، يقول إنّه أقنع والديه بزواجه من زميلته وهي من التركمان السنّة، مبيناً أنّ زميلته تحاول تدريجياً إقناع ذويها. يعلق: "يقف إلى جانبي أشخاص لهم تأثير على عائلة زوجتي المستقبلية، منهم أقارب لهم، وقد تدخلوا، وبلغني أنّ شرطاً وحيداً طرحه الأب لموافقته على هذا الزواج هو ألّا يكون لأيّ فرد من أقاربي أيّ انتماء للمليشيات، وهذا أمر صعب فالعديد من أقاربي ينتمون إلى عدد من المليشيات. لكنّني أختلف معهم في توجههم وانتمائهم". وعلى الرغم من هذا الشرط الذي يراه محمد "تعجيزياً" فهو يعتقد أنّ الموافقة ستكون بمرور الوقت: "سمعة عائلتي جيدة ولنا علاقات وثيقة مع عائلات تركمانية في المنطقة تعود إلى عشرات السنين، فضلاً عن عدم انتمائي إلى أيّ مليشيا، كما ليس لي أيّ نشاط طائفي".
من بين أكثر من يمكن التزود منهم بمعلومات حول الزواج المختلط في محافظة ديالى هم أصحاب مكاتب الفرق الموسيقية، إذ من بين أعمالهم الرئيسة العزف في مناسبات الزفاف، ومن بينهم باسم حسين، الذي يصف عمله بأنّه "خير وبركة" في تعبير عن الرزق الوفير. يبين في حديثه إلى "العربي الجديد" أنّ السبب يعود إلى كثرة الأعراس والمناسبات السعيدة بعد ما شهدته المحافظة من انتهاكات طائفية قبل سنوات. يتابع: "بحسب طبيعة عملنا التي تحتم علينا الاختلاط بجميع فئات وأطياف السكان في ديالى، أستطيع أن أقول إنّ البغض الذي ظهر في السنوات السابقة بين أطياف المجتمع وكان نتيجة التعرض لاعتداءات وجرائم وانتهاكات طائفية انتهى ولم يعد له وجود؛ فالناس جميعهم علموا أنّ من يقف وراء ما جرى ليس السكان إنّما مليشيات ودوافع سياسية ومنفعية".