لطالما كانت علاقة الرؤساء الفرنسيين ملتبسة مع الضواحي، وهم لا يأتون بأيّ فعل حقيقي حاسم في سبيل ردم الهوّة بين المدن وضواحيها وأحيائها الشعبية والتخلص من الفصل الاجتماعي والاقتصادي. هو فصل لم يتردد رئيس الحكومة الاشتراكي الأسبق مانويل فالس عندما أشار إليه، مؤكداً وجود "أبرتهايد مناطقي واجتماعي وعرقي" في الجمهورية الفرنسية.
عندما ترشّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لرئاسة الجمهورية، اختار الإعلان عن ذلك من بلدية بوبينيي التابعة لإقليم سين سان دوني في منطقة إيل دو فرانس (الضاحية الشمالية الشرقية لباريس) في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2016. وبحسب ما يقول المتخصص في علم الاجتماع قدور زويلاي لـ"العربي الجديد"، فإنّ "ماكرون كان يهدف إلى بعث الأمل في نفوس هؤلاء الذين تهملهم الجمهورية وتنساهم في الغالب".
في الواقع، نجح ماكرون في إثارة حماسة مناطق الجمهورية تلك، حين طلب من الوزير الأسبق المنتدب المكلف بشؤون المدينة، جان - لوي بورلو، إعداد تقرير حول الضواحي والأحياء الشعبية في فرنسا، بغية وضع خطة لـ"المصالحة الوطنية" بين الجمهورية والضواحي. أنجز بورلو مهمته بـ"حماسة كبيرة" وقام باستشارات مثيرة للإعجاب مع عُمَد وممثلين عن المجتمع المدني ورؤساء جمعيات وفاعلين اجتماعيين ومواطنين، فاقترح مشروعاً حقيقياً من أجل دمج مناطق الجمهورية تلك لتنعم بالمساواة والمواطنة وتَساوي الفرص. لكنّ الرئيس الفرنسي لم يكلّف نفسه عناء استقبال بورلو وتقريره، تاركاً المهمة لرئيس حكومته إدوار فيليب قبل أن يُدفَن المشروع.
بعد ذلك، حرّك الرئيس ماكرون خطته الخاصة بالضواحي، من أبرز بنودها مناشدة 120 من كبريات الشركات الفرنسية بأن تتحمّل حصّتها من المسؤولية إلى جانب السلطات العمومية في مكافحة البطالة وخلق فرص عمل، منبّهاً إلى أنّها سوف تخضع لاختبارات ضد التمييز في الأعوام الثلاثة التالية. لم ينهِ ماكرون عامه الثاني في قصر الإيليزيه، بالتالي لا يمكن توقّع معجزة في السياق، لكنّ خيبة سُجّلت على الرغم من إنشاء مجلس رئاسي للمدن في فرنسا، أُعلن عنه في 19 مايو/ أيار من عام 2018، وعُيّن فيه الفنان والكوميدي الفرنسي من أصول مغربية ياسين بلعطار. والمجلس الذي يُعنى بإيجاد حلول لأزمات الأحياء الشعبية يضمّ 25 عضواً من الفاعلين على الصعيد الاقتصادي وكذلك الاجتماعي والثقافي والرياضي. ومن بين هؤلاء، نذكر قائد الأوركسترا زهية زيواني التي تعمل على نشر الموسيقى الكلاسيكية في الضواحي، ورئيس جمعية "سبور دان لا فيل" (رياضة في المدينة) نيكولا إيشرمان، ومؤسس مكتب التشغيل "موزاييك" سعيد حموش، ومؤسس تنسيقية "با سان نو" (ليس من دوننا) محمد مشماش، وآخرين. لكنّ المجلس لم يسجّل أيّ نتيجة ملموسة حتى اليوم.
في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2018، انطلقت حركة "السترات الصفراء" لتجعل الرئيس الفرنسي في وضع صعب، اضطره إلى اللجوء إلى ورقة "الحوار الوطني الكبير" التي بدأ يستعيد معها شعبيته التي كانت قد تراجعت إلى مستويات غير مسبوقة. وراح يخاطب شرائح وجماعات كثيرة، من دون أن يهمل الضواحي. فكرّس لقاءً خاصاً بها استمرّ ستّ ساعات في بلدية إيفري - كوركورون (بلدية استحدثت في الأوّل من يناير/ كانون الثاني 2019 وقد دمجت بلديّتَي إيفري وكوركورون) في إقليم إيسون بمنطقة إيل دو فرانس. وتلك البلدية التي تُعَدّ من ضمن الضاحية الباريسية، تضمّ نسباً عالية من العرب والأفارقة. وقد شدّد ماكرون على رغبته في مشاركة ممثلي تلك المناطق في الحوار الوطني الكبير، على غرار مواطنيهم الآخرين، حتى يكونوا "فاعلين" بصورة كاملة. وتحدّث في ذلك اللقاء أمام ممثلين منتخَبين وفاعلين اجتماعيين ومواطنين، عن القضايا التي تهم تلك المناطق، علماً أنّها تلقت نحو 75 مليار يورو منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، لكنّ الحالة الاجتماعية وكذلك الاقتصادية والثقافية لا تكفّ عن التأزّم والتردّي.
في ذلك اللقاء، استعرض الممثلون المنتخَبون، خصوصاً العُمَد، أمام الرئيس، انخفاض مساعدات الدولة وتخلّي الأخيرة عن واجباتها، بالإضافة إلى استمرار أزمة السكن وضعف المستوى التعليمي. بدا ماكرون حينها متنبّهاً لمختلف المداخلات، وأكد وجوب طرح كل شيء على النقاش، مشيراً إلى أنّ الحكومة سوف تعمل على تنفيذ التوصيات التي تنجم عن "الحوار الوطني الكبير". وشدّد على أنّه لن يتخلى عن "ممثلي الدولة في مهمتهم النبيلة".
وماكرون الذي لا يغيب عنه أنّ اليمين المتطرف في أفضل حالاته وهو مرشّح لتحقيق اختراق سياسي كبير في الانتخابات الأوروبية المقبلة، راح يغازل سكان الضواحي وقدّم وعداً بوضع "خطة كبرى" من أجل مساعدة الجمعيات الصغيرة. وجاء ذلك الوعد بعدما أقرّ بأخطاء ارتكبتها الحكومة، وبعدما استمع إلى شكاوى عدّة حول تخلّي الحكومة عن عقود الشغل المدعومة، الأمر الذي أضعف الجمعيات. يُذكر أنّ ثمّة متدخّلين طالبوه بالحفاظ على الخدمات العمومية، منددين بـ"دفن" خطة بورلو الواعدة حول الضواحي.