(صور) مسجد جنين الكبير.. نموذج لأصالة التاريخ الفلسطيني

جنين

محمود السعدي

محمود السعدي
01 يوليو 2016
+ الخط -

وسط مدينة جنين، شمالي الضفة الغربية، تشاهد فن العمارة الإسلامية منذ مئات السنين، وحين تشتاق الروح للسكون، تستوطن مسجد جنين الكبير، حيث أصالة التاريخ شاهدة على عمارة العصر المملوكي.

أهمية المسجد جعلت بلدية جنين تتخذ منه شعارا لها في معاملاتها الرسمية، وبقيت خصوصيته الروحانية شاهداً على تربية الأجيال، فهو مسجد السوق الذي لا غنى عنه لكل من تشتاق روحه للصلاة، خصوصاً في أيام شهر رمضان وأيام الأعياد والمناسبات الإسلامية.
يقول رامي عواد، وهو أحد سكان المدينة، لـ"العربي الجديد"، إن "للمسجد عراقة وأصالة الماضي، كان له أثر في نشأتي، فهو يختلف عن باقي المساجد، وأشعر أنه جزء مني، فله ذكريات تركت في حياتي الشخصية علامات".
لبيب الأسمر، من سكان المدينة أيضا، يستذكر لـ"العربي الجديد"، تاريخ "المسجد" كما يسميه اختصارا أهالي جنين، "كان المسجد يتوسط بساتين جنين وما تحويه من أشجار النخيل والحمضيات، وتتخلل تلك البساتين ينابيع المياه"، والآن بات قلب المدينة.

في عام 974 للهجرة (1566 للميلاد)، شيّدت السيدة فاطمة خاتون، ابنة محمد بك بن السلطان الملك الأشرف قانصوة الغوري، وزوجة الصدر الأعظم البوسني "لالا مصطفى باشا"، مسجد جنين الكبير، على أنقاض مسجد صغير بني في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، حينما جاء فاتحا لفلسطين ودخل الكثير من الفلسطينيين في الإسلام.
تبدو الآثار شاهدة على ما تعرضت له جنين في عام 1799 من غزو الفرنسيين على يد نابليون بونابرت، الذي قصف المدينة بالمنجنيق وتصدى له الأهالي في معركة تُعرف بمعركة المرج، وأصاب نابليون أحد الأعمدة الشرقية للمسجد الكبير وأوقع به دمارا.
الإمام السابق للمسجد، الشيخ عمر غانم، عمل فيه 33 عاما، ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أن المسجد من أهم المعالم التاريخية في فلسطين، فهو متنفس كبير لأهالي مدينة جنين وزوارها، ويعد مؤسسة دينية قائمة بذاتها.
فيما يشدد مدير مكتب وزارة الأوقاف الفلسطينية في جنين، الشيخ صلاح جودة، لـ"العربي الجديد"، على أن "مكانة مسجد جنين الكبير وتاريخه وروحانيته تحتّم على الوزارة الاهتمام به كمعلم من معالم جنين، إذ تحاول الأوقاف بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار أن تعيد رونق البناء التاريخي للمسجد".

وقفية المسجد

حينما بنت السيدة خاتون، وهي امرأة متدينة ومتعلمة، مسجد جنين الكبير، لم تكتف ببنائه، بل جعلت له أوقافا بعدة مناطق فلسطينية متعددة لتشكل دخلا اقتصاديا للإنفاق على المسجد وموظفيه.
يقول الباحث في تاريخ جنين، مخلص محجوب، لـ"العربي الجديد"، إن "السيدة خاتون جعلت للمسجد بعدما بنته وقفية تعتبر من أكبر وقفيات العالم الإسلامي، ويصل مضمونها إلى 26 بلدة ومدينة في فلسطين وبلاد الشام".
من الجهة الشرقية للمسجد كانت تكية إطعام الفقراء والمساكين وعابري السبيل ومخبزا أقيم لأجل ذلك، ضمن الوقفية، وتوقفت عن العمل وأجرت لأحد التجار، يشير الباحث محجوب.

ويتكون المبنى الحالي للمسجد من مساحة تقريبية تصل إلى 1500 متر مربع على مساحة أرض تبلغ نحو 3 دونمات، ويتسع لنحو 5 آلاف مصلٍ، فيما تشكل مرافقه الحالية ترسيخا لأهمية المسجد التاريخية، حيث مبنى الحرم وهو مبنى المسجد الأساسي الذي بنته فاطمة خاتون منذ البدء، له عراقة البناء بقبته الخضراء الكبيرة، وفيه منبر بني أيام العثمانيين قبل مئة عام.
في المسجد مكتبة ذات مراجع ضخمة يستفيد منها طلاب الجامعات وحتى الدرجات العلمية المتقدمة، بينما أضافت لجنة إعمار المسجد حين توسعته وتطويره عام 1999 مبنى أرضيا سمي بمصلى فاطمة خاتون، إضافة لسدة للصلاة ومصلى للنساء وغرف كبيرة ومركزا لتحفيظ القرآن الكريم، كما توجد في المسجد بئرا مياه ارتوازيتان تغذيان المسجد والأشجار المحيطة به، بحسب الشيخ غانم.

مسجد يتوسط جنة
يحدق المارة في سوق مدينة جنين النظر إلى قبة كبيرة خضراء سقفت بها غرفة كبيرة ذات أعمدة عالية يطلق عليها منذ القدم "الحرم"، وبداخل الحرم نقوش وزخارف إسلامية جميلة، بينما تزين الساحة الخارجية للمسجد، والتي تم تطويرها في عهد متأخر، أعمدة رخامية و6 قباب خضراء اللون حجمها صغير، وتعلوها مئذنة المسجد.

كان مسجد جنين الكبير، المسجد الوحيد في المدينة. وفي عهد العثمانيين، أنشأ مسجد جنين الصغير على بعد مئات الأمتار منه، حيث عيون المياه وأشجار النخيل والحمضيات، وتسود بساطة الحياة المكان.
تجهيز المصلي نفسه للوضوء كان له رونق مميز أيضاً، بحيث كانت تجري المياه من عين جنين التي جفت حالياً، عبر قناة وأنابيب فخارية، خصوصاً إلى المسجد الصغير الذي بات يعرف حاليا بالمسجد الجديد. ثم تتجه القناة إلى المسجد الكبير ويتوضأ المصلون من القناة. وبعدها، أنشأت بركة الوضوء، وتخرج المياه بعد ذلك باتجاه مجاريها في مدينة حيفا والتي تصب في البحر الأبيض المتوسط. لكن كل هذا الجمال قد أزيل في مراحل عدة من توسعة المسجد، بحسب الباحث محجوب.

إلى جانب المسجد الكبير، كان هناك حمام تركي ضخم ذو قبة تشبه قبة المسجد، لكنه تصدع نتيجة زلزال ضرب فلسطين عام 1927، وتأذت مرافق المسجد منه أيضا، لكن بلدية جنين هدمت الحمام التركي، بدلاً من ترميمه في خمسينيات القرن الماضي، وحولته إلى ساحة عامة أصبحت سوقا للخضار بعد ذلك، فيما بقي قبر السيد علي جاويش، المشرف على بناء المسجد في عهد فاطمة خاتون، داخل ساحة المسجد شاهدا على عصر مضى.

من الجهة الجنوبية للمسجد، بستان من نخيل وأشجار الحمضيات، بقي شاهدا حتى الآن على جمال مدينة جنين وخصوبة أراضيها، حيث كانت المدينة تشتهر بالنخيل والحمضيات إلى ما قبل 30 عاما.



دلالات
المساهمون