بربارة "بنت البلد"

01 ديسمبر 2018
بربارة "الهاشلة" في حقول قمح بعلبك (بيتر بول روبنس/Getty)
+ الخط -

"هاشلِه بربارة والقمح بالكوارة... هاشلِه بربارة مع بنات الحارة... عْرِفْتا من إيدَيها ومِن لَفتِة عينَيها ومِن هاك الإسوارة... وهاشلِه بربارة". أهزوجة محبّبة لن أردّدها ليلة بعد غدٍ بصوت عالٍ، غير أنّني لن أتمكّن من ردع نفسي عن استعادتها في سرّي مرّات ومرّات. لطالما فعلتُ ذلك في خلال أعوام سالفة. أسترجعها، إنّما من دون أقنعة ولا أزياء تنكريّة.

في زمن انقضى، كان التهيّؤ لليلة الثالث من ديسمبر/ كانون الأوّل، ليلة عيد البربارة، يشبه إلى حدّ كبير الاستعداد لأيّ من الأعياد الكبرى. وكما كانت تلك الأعياد تستدعي شراء الجديد من ملابس وما إليها، كذلك الأمر بالنسبة إلى ليلة البربارة التي كانت تتطلّب اختيار زيّ ملائم للمناسبة... زيّ نرغب فيه بحقّ. وعمليّة الاختيار، لا بل التخطيط، لطالما استلزمت أيّاماً، وسط حماسة غير اعتياديّة.

في ذلك الزمن، لم نكن ننتقي زيّاً من بين مجموعة أو أخرى من الأزياء الجاهزة في محال الألعاب. أزياؤنا التنكريّة كانت تُهيّأ منزليّاً، فتُسوّى من قطع ثياب متوفّرة في خزاناتنا لتتلاءم والشخصيّة المختارة، بينما تُضاف إليها مواد متنوّعة، مثل أوراق الكريب الملوّنة وإكسسوارات تختلف طبيعتها. وتُعَدّ تلك الأزياء لتتلاءم وأقنعة تنتشر في محال الألعاب والمكتبات ودكاكين السمانة. ما زالت صورة تلك الأقنعة المُعَدّة لتغطية الوجه فحسب، والمعلّقة بملاقط غسيل خشبيّة على حبال في المحال التجاريّة، مكينةً في ذاكرتي. بعيداً عن الأقنعة، تلوّنت وجوهنا كثيراً بأصباغ ومساحيق، حين لم نكن نُوَفَّق بقناع يتناسب وزيّ الشخصيّة التي اخترناها.

وتحلّ ليلة البربارة. نرتدي أزياءنا التنكريّة، ونقصد أفواجاً أفواجاً بيوت أهالي الضيعة. نطرق أبوابها وندخلها، لتعلو الأهازيج من ضمن عرض مُرتجَل يشتمل كذلك على رقص خارج عن أيّ إيقاع. ونضحك. بريئاً كان ذلك التواطؤ بين صغار الضيعة ومراهقيها. ويحاول الواحد منّا اكتشاف هويّة الآخر المتخفّي في شخصيّة غريبة، تماماً مثلما يفعل أهالي تلك البيوت الذين اعتادوا انتظارنا.




ليلة بعد غدٍ، لن أردّد الأهزوجة المحبّبة، غير أنّني سوف أحرص على تناول القمح المسلوق والقطايف والعوّامات. أطباق خاصة بالمناسبة، صارت اليوم متوفّرة على مدار العام لتفقد مذاقها الحقيقيّ. لكلّ واحد منها رمزيّته المرتبطة بحكاية القدّيسة بربارة.. صاحبة العيد. القدّيسة بربارة "الهاشلة" من بطش والدها دْيوسيقوروس، أحد أعيان مدينة هِليوبوليس، في أواسط القرن الثالث. هي ابنة بعلبك، مدينة الشمس. سبب إضافيّ ليكون العيد كبيراً.

"هاشلِه بربارة والقمح بالكوارة..." أستعيد الأهزوجة في سرّي، وأحنق. أطفال اليوم، كثيرون منهم، لا يدركون أنّ بربارة "بنت البلد". هم ارتدوا قبل نحو شهر، أزياءً تنكريّة محتفلين بـ"هالوين". يحتفلون به... وتبقى لي "بربارة" ذلك الزمن الذي انقضى.
المساهمون