هوفسب زيتوناليان: الموسيقى جنسيتي

22 مارس 2016
كانت حياة الشاب رتيبة قبل اكتشافه الموسيقى (العربي الجديد)
+ الخط -

انتقل هوفسب زيتوناليان من شخص عديم للجنسية يشكل عبور الحواجز الأمنية من دون توقيف أقصى أمنياته، إلى عازف محترف للكمان خلال سنوات قليلة. اليوم يتحضر الشاب، الذي حرمه بلده الأم من جنسيته، للهجرة بعد نجاح مسعاه من خلال الأمم المتحدة.

يدخل الشاب العشريني الأنيق بوقار إلى أحد مقاهي منطقة برج حمود الأرمنية شمالي العاصمة بيروت. يعرفه معظم العاملين في المقهى الصغير، فيرحبون به بحرارة بالغة. ترشده النادلة إلى الطاولة الأكثر بعداً في المقهى المكتظ "لأنّ هوفسب لا يحب الضجة". يتمهل في فك العقدة التي عقدها على شاله، ويشرح بساطة هذه العقدة وأثرها البالغ في تحويل الشال البسيط إلى قطعة أنيقة من الملابس.

تهمه التفاصيل كثيراً، فيرفق كل واقعة من وقائع حياته بالتاريخ والأحداث المرافقة، وكأنّه كاتب سيناريو محترف. يخفي شغفه بالموسيقى مشكلته الأساسية في الحياة، والتي نقلته من شاب عشريني عادي إلى شاب استثنائي حرمه وضعه القانوني (عديم الجنسية) من ممارسة أبسط تفاصيل الحياة بشكل طبيعي. ولد هوفسب (يوسف باللغة الأرمنية) وعاش في لبنان، لكنّ عدم تسجيل والديه لزواجهما في سجلات الدولة اللبنانية واكتفائهما بالسجل الكنسي حرم أبناءهما، ومنهم هوفسب، من الجنسية اللبنانية، ومعها فرصة العيش بشكل طبيعي في بلد يكافح فيه الشباب لتحصيل حقوقهم وكأنها أحلام.

يتحدث هوفسب عن مشكلة انعدام الجنسية بوصفها أزمة يومية يختصرها سؤال الجميع له عن بطاقة الهوية "عند الحواجز الأمنية وفي المدرسة ثم المعهد، وفي مركز البريد حيث أدفع رسوم المعهد، يسألني الجميع عن بطاقة الهوية ولا يدركون كم يستفزني هذا السؤال!".

يستعيض الشاب عن بطاقة الهوية بإفادة ولادة تثبت ولادته في البلد الذي يحب بالرغم من أنّ نظامه لم يعترف له بحقه في الحصول على الجنسية، التي تحميه من التوقيف على الحواجز الأمنية لعدم حيازة بطاقة هوية. لكنّ كل حس بالمواطنة فقده هوفسب بالقانون، عثر عليه في آلة الكمان الموسيقية. يقول: "الموسيقى هويتي وجنسيتي". تختصر هذه العبارة الكثير من حياة هوفسب التي قرر تلوينها بالموسيقى، ونقل نفسه من مرحلة رمادية طبعه الجميع فيها بعبارة "عديم الجنسية" إلى إنسان حي أحب الموسيقى وقرّر تعلمها في عمر يحصل فيه الشخص العادي على شهادته الموسيقية الأولى، كما أخبره أستاذه في الكونسرفاتوار (معهد الموسيقى) الوطني الذي تمكن من التسجيل فيه "بسبب الإصرار، وبعد محاولة أولى فاشلة بسبب عدم حيازتي لبطاقة هوية!".

اقرأ أيضاً: زينة صعب تموّل مواهب الشباب

كانت حياة الشاب رتيبة قبل اكتشافه الموسيقى وعشقه للكمان خلال حفل موسيقي جرّه إليه أصدقاؤه القلائل جرّاً، لأنّ وضعه القانوني كاد يحوله إلى شخص انعزالي. يعلق: "في ذلك الحفل عزف الموسيقي (المعروف) غي مانوكيان على البيانو أغنية لفيروز، وتبعه بعدها بقليل عازف الكمان فانسابت دموعي بشكل عفوي. أحسست أنّ الكمان فهم وجعي من دون أن يسأل عن بطاقة الهوية، فقررت امتلاك الكمان الخاص بي وتعلم العزف عليه".

حالت العقبات المادية دون تمكن العائلة المتوسطة الحال من اقتناء كمان لابنها بالرغم من التشجيع المعنوي الكبير من والدته. لكنّ الصدفة منحت هوفسب المبلغ الكافي لاقتناء الكمان الخاص به: "كنت أسير ليلاً بالقرب من المنزل فعثرت على سلسلة صدئة على الأرض، وعند فحصها صباحاً في محل المجوهرات الذي أعمل فيه تبيّن لمعلمي أنّها من الذهب فبعتها فوراً وتوجهت إلى بائع الأدوات الموسقية واشتريت كماني بنفس السعر الذي بعت به الحلية الذهبية".

بعد فترة من التمارين الفردية في المنزل، قرّر التسجيل في المعهد الوطني للموسيقى. يروي: "عندما سألتني موظفة التسجيل عن بطاقة الهوية كدت أفقد الأمل، لكنها شجعتني وتحملت مسؤولية تسجيلي، من دون بطاقة هوية، على عاتقها. أسرعت بعدها إلى مركز البريد لدفع قيمة التسجيل فرفض مدير المكتب قبول المبلغ بسبب عدم حيازة الهوية ففقدت الأمل مجدداً وانتهى العام الدراسي من دون تسجيل".

في العام التالي كرر هوفسب المحاولة "لأنني لم أتمكن من العيش مع فكرة أنني لم أحاول أقصى جهدي للقيام بما أحب". رمت نفس موظفة التسجيل الأوراق في وجه الشاب بعدما ظنت أنه تراخى في متابعة المعاملة العام الماضي برغم المجهود والمسؤولية التي تحملتها. يقول: "بكيت أمامها ليس بسبب تصرفها معي، لكن بسبب صعوبة الحرمان الذي أحسسته داخلي". كانت هذه الدموع كافية لتدرك الموظفة أنّ الشاب الواقف أمامها ليس كسولاً أبداً، فقادته المعاملات مجدداً إلى نفس مكتب البريد ونفس الموظفين الذين قبلوا المعاملة في المرة الثانية.

في المعهد لم يسأل هوفسب عن صف الكمان بل تنقل كالطفل في أرجاء القاعات الواسعة حتى وصل إلى أستاذ الكمان: "سخر مني عندما علم أنني أحاول تعلم العزف في مرحلة عمرية يحوز فيها المتعلمون عادة على شهادتهم الموسيقية الأولى، لكنّه بكى بعدما عزفت له مقطوعة وأخبرته بقصتي".

اقرأ أيضاً: محب شانه ساز.. ترامواي بيروت العائد.. عن طريق البحث