ميشال بغداليان... قصة حب أولها الكتابة وآخرها مدينة الميناء

27 مايو 2017
يتوجه إلى البحر صباح كل يوم (داني بركات)
+ الخط -

بات للبناني، ميشال بغداليان، أكثر من كتاب. هذا الشاب تمسّك بحلمه أكثر من أي شيء. منح نفسه للناس نهاراً، وللكتابة، وهي عشقه، ليلاً.

"تضع كرسيّاً أمام الباب وتنتظر لتأتي الطريق" هو عنوان ديوان شعر للكاتب فوزي يمين. لكنه يصلح أيضاً عنواناً عريضاً ليوميّات ميشال بغداليان، أو "ميشو" كما يعرفه كل الذين يعبرون الطريق أمام بسطته، كباراً وصغاراً. يلقون عليه التحية إذا ما كانوا مسرعين، أو يتوقّفون دقائق ويتبادلون معه الحديث عن المدينة والبحر والطقس والناس.

يشير ميشو إلى يمينه، ويقول مبتسماً: "هذه التشكيلة الجديدة"، وهي مجموعة من ألواح الشوكولاتة والبسكويت والسكاكر والحلويات، يصفّها على طاولة قرب باب بيته في أحد الأزقّة الضيّقة والجميلة في مدينة الميناء الساحلية في طرابلس (شمال لبنان). كأنّه يبيع الفرح للأطفال على شكل حلوى، ويبيع الحبّ للكبار على شكل قصص غرام خياليّة.

البسطة ليست إلا وسيلة تسعف ميشو لتبديد الوقت في فصل الصيف. فهو في الحقيقة، لا يتفرّغ للعمل الأحبّ إلى قلبه إلّا بعد منتصف الليل. "منذ كنت صغيراً، أردت تأليف الكتب. وأخبرت أهلي بأنّني سأصبح كاتباً حين أكبر". يقول الشاب البالغ من العمر 33 عاماً، لـ "العربي الجديد": "حين أنهيت دراستي، راودني هذا الحلم من جديد. وهذه المرة، بدأت العمل على تحقيقه".

بداية تحقيق الحلم كانت مع نشر كتابه الأول "بداية حلم"، والذي يتضمّن قصصاً قصيرة كتبها في عمر 25 عاماً. "هي قصص قصيرة من وحي الخيال، قصص حب وغرام. أفكّر في حبيبتي الخيالية وأكتب عنها أو أكتب لها"، يقول ميشو وهو يعيد قراءة بعض المقاطع من الكتاب. أمّا "الإرادة والرجاء"، فهو مجموعة قصص وخواطر وجدانية. إلّا أنّ الكتاب الأكثر توثيقاً لقصة ميشو، والأقرب إلى سيرة ذاتية، فهو "قصّتي مع الصراع". يضيف: "هو ببساطة قصّة حياتي. من خلاله، أوصل صوتي ورسالة مفادها أنه يمكن تحويل الإعاقة الجسديّة إلى طاقة فكرية".

لم يطل بقاء ميشو في رحم أمّه، فقد ولدته في الشهر السادس من حملها. حين ولدته، كان ينقصه الأوكسجين. لكن هذه لم تكن المشكلة الوحيدة، وبدأت الأمور تتطوّر شيئاً فشيئا. بعدها، عرف الأطباء أنّه ولد من دون وركين. لكن حين علموا بذلك، كان الوقت قد فات. "غلطة حكيم"، تعقّب والدة ميشو على حديثه. لكنّ ميشو، وهو على كرسيّه الكهربائي المتحرّك، حارب الوقت وحقق حلمه وما زال. هذه المعركة الهادئة الذي يقودها كلّ يوم، كتب كثيراً عنها في كتابه الذي اختار له عنوان "مثابرة وأمل".



في هذا الكتاب نفسه، يتطرّق ميشو لعلاقته مع مدينته، الميناء. يبدأ نهاره بـ "كزدورة" في المدينة بمفرده أو مع رفاقه. في كلّ الأحوال، فإن أبناء الميناء وسكّانها يعرفون ميشو ويلقّبونه أيضاً بـ "المختار"، هو الذي عادة ما يكون أول من يتلقّى أخبار مدينته أثناء جلوسه بهدوء في بيته. "أخيراً، قررت العمل على هذه البسطة حتى أقوم بشيء جديد. وجدت نفسي أستوحي من الأولاد الذين يركضون نحوي لشراء السكاكر، ومن المشردين على الطرقات". أمّا علاقة ميشو بالبحر، فحاله حال كافّة أهالي الميناء، إذ يبدو أنهم ينّظمون أيامهم ونشاطاتهم بحسب البحر.

"صباح كلّ يوم، وفي فصل الصيف تحديداً، أتوجه إلى البحر وأتوقّف هناك. أتأمّله. أستمع إلى هديره أو لحكايا الصيادين الكثيرة التي لا تنتهي"، يحكي ميشو ثمّ يضيف: "أكثر ما أحب في الميناء الأسواق القديمة والبحر".

في سياق حديثه عن نضاله والجهود التي يبذلها من أجل تحويل الإعاقة إلى حافز إيجابي، لا يمكن لميشو أن يغضّ النظر عن علاقته بالله. يقول إن علاقته بالله لا توصف بكلمة. "إيماني ساعدني كثيراً، من دونه لم أكن لأصبح حيث أنا اليوم". يضيف: "عندما أدخل الكنيسة، أنسى العالم الخارجي كلّه وأتركه خلفي"، لافتاً إلى أنّ الإيمان هو سلاح يستطيع من خلاله أن ينجح في تحويل إعاقته الجسدية إلى طاقة فكرية وإيجابيّة. "لكنّني في كتاباتي لا أتطرق إلى المواضيع الدينيّة لأنها شائكة بعض الشيء، لذلك أبتعد عنها وألجأ إلى الكتابة عن مدينتي المتنوّعة مثلاً".

لا يكتب كلمة واحدة في النهار "لأنّ النهار للناس". في الليل، يفتح ميشو كومبيوتره ويترك خياله يسرح فيؤلّف قصصاً عن الحب والفراق، أو يحكي عن الميناء وحجارتها التي يعرفها جيداً. "إذا كنا في فصل الشتاء، أكتب في بيتي. لكن ما أن يصحو الطقس قليلاً حتى آخذ حاسوبي معي إلى الخارج وأكتب هناك"، يقول ميشو الذي يحب الخروج من البيت، إن كان على كرسيه أو في أحلامه. يعمل الآن على كتاب جديد، أيضاً وأيضاً فيه كثير من الوجدانيات والحب. فعل الكتاب هذا يرافقه فعل البحث عمّن يتبّنى المشروع. إذ إن ميشو غالباً ما يكون هو نفسه الكاتب والناشر والبائع في آن.

دلالات