أبحاث روسيا... تراجع في التمويل وتناقص في العلماء

24 فبراير 2020
مهرجان في القرم بمناسبة "يوم العلم" (سيرغي مالغافكو/ Getty)
+ الخط -

لطالما حظيت جامعات ومعاهد ومراكز أبحاث الاتحاد السوفييتي بسمعة عالمية، خصوصاً لجهة الإنجازات العلمية التي حققتها على مدار القرن العشرين، لكنّ الوضع يتدهور في روسيا منذ تفكك الاتحاد عام 1991

بالتزامن مع إحياء روسيا "يوم العلم" في الثامن من فبراير/شباط الجاري، كشفت تقارير حكومية وأخرى مستقلة عن أوضاع كارثية يشهدها قطاع البحث العلمي في البلاد. وبالرغم من زيادة التمويل الحكومي بشكل لافت في السنوات الأخيرة، فإنّ حجم الإنفاق الإجمالي على الأبحاث العلمية في روسيا هو الأدنى بين مجموعة السبع الكبرى والصين، بسبب ضعف مساهمة القطاع الخاص في تمويل الأبحاث. وفي حين تخلو قائمة أفضل 100 جامعة ومؤسسة تعليمية في العالم من الجامعات والمعاهد الروسية، تتعمق الأزمة بتواصل أزمة هجرة العقول من البلاد، في ظلّ عدم توافر حوافز مادية ومعنوية للباحثين، وتركّز نحو نصف التمويل في مجال صناعة الأسلحة والأغراض الدفاعية.

تمويل سامّ
وكشفت غرفة الحسابات الروسية، في تقرير لها، أنّ أموال الموازنة الحكومية، هي المصدر الرئيسي لتمويل العلوم في روسيا، وتقدم ما بين 60 و70 في المائة من إجمالي نفقات البحث والتطوير. التقرير أشار إلى أنّ روسيا تحتل المركز الأول عالمياً من ناحية حصة الدولة في تمويل نشاطات البحث العلمي والابتكار، وذكر أنّ إجمالي تمويل العلوم في روسيا قفز منذ عام 2000 من 76.7 مليار روبل (مليار و200 مليون دولار أميركي) إلى نحو 800 مليار روبل (12 مليارا و500 مليون دولار) سنوياً في الموازنة الثلاثية 2018-2020. لكنّ معدّي التقرير أوضحوا أنّ القطاع العلمي في روسيا ما زال ضعيفاً من ناحية الإنتاج وتلبية حاجات الاقتصاد والمجتمع.




وللمقارنة، بلغ حجم تمويل العلوم في عام 2019، في الولايات المتحدة 511.1 مليار دولار، وفي الصين 451.2 مليار دولار، وفي اليابان 168.6 مليار دولار، وفي ألمانيا 118.5 مليار دولار، وفي كوريا الجنوبية 79.4 مليار دولار، وجاءت روسيا في المرتبة العاشرة في قائمة أكثر الدول إنفاقاً على العلوم بمبلغ 39.9 مليار دولار.

وتطرّق التقرير إلى أسباب تخلّف روسيا في مجال البحث العلمي، وانعدام رغبة الاستثمارات الخاصة المشاركة في التمويل، موضحا أنّ الأنشطة في قطاع العلوم الروسي "تتمتع بمستوى منخفض من الجاذبية" للباحثين العلميين الشباب وكبار العمر على حد سواء، بما في ذلك من يأتون من الخارج. والسبب في ذلك، الحواجز المؤسسية الكبيرة، وسوق العمل غير المتطور وغير الحديث في مجال البحث والتطوير. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ نظام إدارة العلوم الروسي "غير قادر على صوغ أساس علمي وتقني" للمشاريع واسعة النطاق، و"غير قادر على الاستجابة للتحديات الكبيرة التي تواجه المجتمع والدولة"، وأيضاً "لا يعمل كمحرك للتنمية الاجتماعية والاقتصادية".



ووصف التقرير التمويل الحكومي للعلوم بـ"السامّ"، موضحاً أنّ التمويل الحكومي يفرض على متلقّيه العمل في إطار وتوجّه تحددهما الدولة، وهو عادة لا يتطابق مع الاحتياجات الحقيقية للاقتصاد والمجتمع، الأمر الذي يتضح في حقيقة أنّ أموال الموازنة، خصوصاً في إطار طلبات المشاريع الدفاعية والعسكرية، يجري تخصيصها لأغراض البحث والتصميم لـ"مواضيع غير ذات صلة". بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التمويل الحكومي يوجه إلى عدد محدود من المؤسسات البحثية، بما في ذلك الجامعات التي "لا تعمل وليست لديها حوافز للعمل في السوق التنافسية للبحث والتطوير". كذلك، يجري فرض "متطلبات كثيرة" تتعلق بالتقارير وإجراءات مراقبة نفقات الأموال: "هذا ما يفسر قلة الطلب على التمويل الحكومي للبحث والتطوير في الشركات الابتكارية الصغيرة والمتوسطة".

انخفاض
بحسب دراسة أجرتها مدرسة الاقتصاد العليا في موسكو، فإنّ حجم التمويل الحكومي للعلوم في روسيا لا يتجاوز 0.85 في المائة من الناتج الإجمالي للاقتصاد، ويصل إلى 1.1 في المائة بحساب الاستثمارات الخاصة، لكنّه يبقى أقل بكثير من حجم التمويل في البلدان المتقدمة والبالغ وسطيا 2.3 في المائة. وأشارت الدراسة إلى أنّ نحو 45 في المائة من التمويل الحكومي يذهب لرعاية أبحاث في مجال تطوير الأسلحة والصناعات الدفاعية.

ويقول نائب مدير معهد الدراسات الإحصائية واقتصاد المعرفة التابع لمدرسة الاقتصاد العليا، كونستانتين فورسوف، إنّ الحكومة بالرغم من تعزيزها حجم تمويلها للعلوم في البلاد، ورفعه إلى مستوى قياسي، لم تتمكن من تطوير هذا القطاع وربطه بالاحتياجات الاقتصادية والمجتمعية للبلاد، بل على العكس "تسببت سياسات الدولة في تراجع مستويات جودة وفاعلية البحث العلمي في البلاد، كما حولت هذا المجال إلى واحد من أقل مجالات العمل جاذبية لكلّ من الشباب والمتقدمين في العمر، على حدّ سواء". يحذّر من أنّه "لا توجد آليات كثيرة للحفاظ على العقول في المجال العلمي وتطوير مجالاتهم".




ويشهد قطاع العلوم الروسي انخفاضاً ملحوظاً في عدد الباحثين العلميين، إذ انخفض عدد العلماء الباحثين في روسيا بنسبة 6 في المائة، ففي الفترة من عام 2010 إلى عام 2018، انخفض من 365 ألفاً و900 باحث، إلى 347 ألفاً و800 باحث، وفق دراسة أجرتها شركة مؤسسة "فين ايكسبرتيزا" الاستشارية المتخصصة التي حذرت من تراجع حاد في الفئة العمرية ما دون 29 عاماً، ما ينذر بتعمّق المشكلة في العقود المقبلة. وبحسب الدراسة، نما عدد الباحثين العلميين حتى عام 2015، لكن بعد ذلك بدأ في الانخفاض، وتراجع حتى 2019 بنحو 21 ألف باحث. وأشارت إلى أنّ عدد العلماء في العلوم الطبيعية تراجع بنحو النصف إلى 10 آلاف و700 باحث، كما تراجع عدد الباحثين في مجال الزراعة بنحو الربع، وكذلك تراجع عدد العلماء في المجالات الطبية بنحو 20 في المائة.

وأشارت رئيسة "فين ايكسبرتيزا"، يلينا تروبنيكوفا، إلى أنّ "تباطؤ النمو الاقتصادي وإعادة الهيكلة المتكررة لنظام المؤسسات العلمية، أثّرا سلباً في الصناعة العلمية ككلّ، وعلى إمكاناتها البشرية تحديداً، لا سيما أنّ العلوم في روسيا تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدولة". تابعت، في حوار مع صحيفة "آر بي كا" الروسية، أنّه "على الرغم من أنّ إجمالي الإنفاق على العلوم قد نما، فإنّه غير كافٍ لتقريب الوضع المادي للعلماء في روسيا من مستوى زملائهم الغربيين".

نزيف أدمغة
يلقي الخبراء والمراقبون باللوم على الدولة في تراجع أعداد العلماء والباحثين، وتدهور وضع العلوم في البلاد، خصوصاً ما يتعلق بعملية إصلاح أكاديمية العلوم الروسية، التي أطلقتها الحكومة في عام 2013، والتي جرى في إطارها، ربط أكاديمية العلوم الطبية والعلوم الزراعية، بأكاديمية العلوم الروسية، بعدما كانت المؤسستان مستقلتين في قرارهما وعملهما. كذلك، جرى نقل المنظمات العلمية الخاضعة لولاية الأكاديمية الروسية للعلوم، إلى ولاية الوكالة الفدرالية للمنظمات العلمية. وكجزء من الإصلاح، أجريت مراجعة واسعة النطاق لممتلكات المؤسسات الأكاديمية وتقويم نجاح عملها. وبناءً على هذه التقديرات، جرى اتخاذ قرارات بشأن المؤسسات التي يجب تقليص حجمها، وأيّ مؤسسات يجب المحافظة عليها، وأيّ مؤسسات يجب التخلص منها. ووجّه كثير من العلماء انتقادات حادة لإصلاحات نظام أكاديمية العلوم الروسية.



بدورها، لم تتمكن الحكومة من اتخاذ تدابير واضحة للحدّ من الكارثة التي يشهدها قطاع البحث العلمي، بالرغم من أنّ تقرير الرابطة الروسية للنهوض بالعلوم، الذي أعد بالتعاون مع الأكاديمية الروسية للعلوم، عام 2017، وصف الوضع بأنّه "كارثي"، محذراً من أنّ "روسيا تستمر وبسرعة في التخلف في المجال العالمي للبحث العلمي". وأوضح التقرير أنّ "الحالة الراهنة للعلوم الروسية، وفق عدد من المؤشرات الموضوعية، كارثية. ولأسباب موضوعية ذات طابع اقتصادي، فإنّ إجمالي تمويل المجال العلمي والتقني في روسيا الحديثة أقل بكثير من المستوى الحالي للتمويل في العديد من البلدان المتقدمة والنامية". وأرجع الخبراء السبب الرئيسي لمشاكل العلوم الروسية إلى "العامل المدمر الكامن في غياب استراتيجية حكومية واضحة في ما يتعلق بالمجال العلمي والتقني". وفي تصريحات صحافية في ذكرى يوم العلم في روسيا، قال الأكاديمي البارز في الأكاديمية الروسية للعلوم، المدير العلمي لمعهد علوم المحيطات، روبرت نيغماتولين، إنّ الحالة العلمية في روسيا اليوم "غير مرضية البتة، ولا تلبي احتياجات المجتمع والبلاد". وأعرب عن أسفه من أنّ مجلس الأطروحات العلمية حيث يعمل، لم يناقش منذ شهور أيّ رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه، مشيراً إلى أنّ عدد طلاب الدراسات العليا انخفض بحدة، وأنّه "يتعذّر علينا في بعض الأحيان العثور على رؤساء مؤهلين للمعاهد والمختبرات".




ما يزيد الوضع سوءاً استمرار نزيف الأدمغة والكفاءات من روسيا، وفق بيانات دراسة أعدها البنك الدولي، نشرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، جاء فيها أنّه غادر روسيا للعمل في الخارج في الفترة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى عام 2017، عشرة ملايين و600 ألف مواطن، في خسارة تمثل 7.4 بالمائة من عدد سكان البلاد الإجمالي، واللافت أنّ 70 في المائة ممن غادروا البلاد، هم من حملة الشهادات العليا.