تضامن عراقي... مبادرات أهلية لتجاوز مآسي الحروب

08 مايو 2019
لم تقتصر المساعدات على الجهات الرسمية (علي يوسف/فرانس برس)
+ الخط -

بالترافق مع تدهور أحوال عائلات كثيرة في العراق، نتيجة الحروب ثم الحصار، ومن بعدها الغزو الأميركي والاقتتال الطائفي والنزوح، ازدادت المبادرات الأهلية التي يساعد فيها العراقيون بعضهم بعضاً.

ثلاث وسبعون علامة حمراء في سجل الحاج فالح عمران. كلّ واحدة منها وُضعت أمام اسم لعائلة، أغلبها لعائلات تقطن في العاصمة العراقية بغداد، حيث يسكن الرجل ذو الأربعة والستين عاماً، الذي يعتبره أهالي حيّه في محلة الكرخ من "الرجال الصالحين" فلا همّ لديه غير صنع الخير للناس. الحاج فالح يعتبر السجل الكبير الذي يملكه أثمن ما لديه، ولهذا السبب صنع منه عدة نسخ مصورة يحتفظ بها في جواله وجهاز الكمبيوتر. في هذا السجل مُدوّنة بأسماء عائلات، يصل عددها إلى 268 عائلة. أكثر ما يسعد الحاج فالح هو أن يضع علامة حمراء أمام اسم إحداها، وهو ما يعني: "قمت بواجبي ومسؤوليتي أمام الله وأديت الأمانة الملقاة على عاتقي تجاه هذه العائلة".

سجل الحاج فالح ليس جديداً، فهو يعود إلى ثمانية وعشرين عاماً، إذ فتحه أول مرة عام 1991، ليدوّن فيه أسماء العائلات الفقيرة التي لا تقوى على مواجهة ضنك العيش، وأغلبها فقد معيله. ففي ذلك العام، فرضت الأمم المتحدة حصاراً اقتصادياً خانقاً على العراق؛ نتيجة غزو الكويت، وتسبب الحصار بانتشار كبير للفقر بشكل لم تشهده البلاد من قبل، فضلاً عن انتشار الأمراض وحصول تراجع كبير في جميع القطاعات الخدمية، لا سيما الصحة والتعليم، بالإضافة إلى تراجع في الأمان، إذ انتشرت عصابات السرقة نتيجة الفقر المنتشر. لكن، على الرغم من ذلك، لم يكن عدد العائلات الفقيرة يفوق عشر عائلات في الحي الذي يسكن فيه، من أصل أكثر من ألفي عائلة. يقول الحاج فالح لـ"العربي الجديد": "عائلات قليلة فقدت معيليها، وفي الغالب قتل هؤلاء في الحرب، وكان بعضها يحتاج إلى المال، فأدوّن اسم العائلة في السجل، ويغادر اسمها السجل بعد أن تجد مصدر رزق كأن يعمل أحد أفراد الأسرة مثلاً". الحاج فالح الذي يشير إلى أنّ الأسرة التي تغادر سجله يضع أمام اسمها علامة حمراء، يقول إنّ مصدر المبالغ التي ينفقها على الأسر المحتاجة هي من فاعلي الخير، الذين له صلة بهم، وقد وضعوا على عاتقهم مساعدة المحتاجين من دون أن يظهروا أنفسهم.

المبادرات أبقت تلاميذ في مدارسهم (حيدر هادي/ الأناضول)

الوضع تغير كثيراً عقب عام 2003، إذ تسبب الغزو الأميركي - البريطاني وما خلفه من عنف واقتتال طائفي وظهور تنظيمات إرهابية في تشريد مئات آلاف العائلات، ومقتل عشرات آلاف الأشخاص من أرباب الأسر، فضلاً عن اعتقالات طاولت أعداداً أخرى كبيرة، في بروز شريحة واسعة من الفقراء، وعدد كبير من الأسر لم تعد تملك مصدر دخل بعد فقدان المعيل. هكذا، أدرك كثيرون من أبناء الشعب العراقي أنّهم أمام وضع خطير وعليهم تدارك ضياع عدد كبير من العائلات، بحسب الحاج فالح. يؤكد أنّ "فاعلي الخير تصدوا لهذا الخطر، وأصبحت أتلقى مبالغ مالية كبيرة من داخل حيّنا ومن أشخاص يقيمون في خارج البلاد بعضهم من سكان الحيّ واغتربوا". يضيف: "أعرف احتياج كلّ عائلة من العائلات المدونة في سجلي. بعضها يخرج من السجل فأضع على الاسم علامة حمراء، كأن تجد الأم عملاً مناسباً ولم تعد في حاجة إلى المساعدة أو تصبح مسؤولية إعالة الأسرة على عاتق الأولاد بعدما كبروا وحصلوا على وظائف".

كان لنزوح أعداد كبيرة من العائلات هرباً من تنظيم "داعش" أو نتيجة اندلاع المعارك بين القوات العراقية والتنظيم تأثير بالغ على المجتمع الذي أبدى تعاطفاً مع هذه الأسر. وكانت مخيمات النازحين تتلقى مساعدات عديدة جمعها الأهالي في مدن مختلفة. فضلاً عن هذا، فإنّ نازحين انتشروا داخل المدن، بعضهم خصصت لهم مساجد وقاعات مناسبات ومدارس للسكن فيها، وآخرون أخلوا لهم منازلهم ليسكنوها، وكانوا يكتفون بما يصلهم من مساعدات من قبل سكان هذه الأحياء، بل تفوق حاجتهم أحياناً، بحسب سراج عز الدين، الذي أصبحت زيارته إلى حي الأعظمية ببغداد تقليداً يصفه بـ"المقدس" في حين لم يكن يعرف من قبل أيّ شيء عن هذا الحي.




عز الدين (26 عاماً) يسكن في محافظة صلاح الدين (شمال)، فرّ رفقة عائلته إلى بغداد هرباً من تنظيم "داعش" الذي سيطر على مدينته، وسكنوا في أحد المساجد إلى جانب أكثر من عشرين عائلة أخرى، إذ خصص الوقف حينذاك بعض المساجد لإيواء النازحين. يوضح لـ"العربي الجديد" أنّ "السكان في هذا الحي كانوا يطهون لنا الطعام يومياً على مدى عامين هي مدة بقائنا هناك حتى عودتنا إلى مدننا. منذ الصباح يبدؤون في المجيء إلينا، فيجلب بعضهم الخبز وآخرون الفاكهة والطعام المطبوخ وهناك من يجلب لنا الأجبان ومشتقات الحليب. كانت الأطعمة تفوق حاجتنا، عدا عن أولئك الذين يقدمون مساعدات مالية". يضيف أنّ ما لقيه من احتضان "يفوق الوصف. لذلك، أزور الحيّ باستمرار، إذ أصبح لي فيه أصدقاء. ومنذ أن هُزم الإرهاب وعدت إلى مدينتي أواصل زيارة الأعظمية".

سيطر تنظيم "داعش" على نحو ثلث مساحة البلاد منذ صيف 2014، وبعد هجوم للقوات العراقية مسنودة بغطاء جوي أميركي، أعلنت الحكومة عن استعادة السيطرة على جميع الأراضي في البلاد. وكانت العائلات تعود إلى مدنها عقب نجاح القوات العراقية بتحرير هذه المدن من التنظيم.

ماهر مجبل، هو الوحيد من مجموعة رفاق مكونة من تسعة أشخاص جمعتهم مقاعد الدراسة في جامعة "بغداد" في ثمانينيات القرن الماضي، ما زال يعيش في داخل العراق، فجميع أفراد المجموعة توزعوا بين أميركا وأوروبا منذ نحو عشرين عاماً. منذ بدأ العنف ينتشر في البلاد بعد عام 2003، وهو ما يؤدي إلى وقوع قتلى بالإضافة إلى حملات اعتقال تطاول أبرياء، تشنها القوات الأميركية، ثم اعتقالات مشابهة من قبل قوات أمنية محلية، بسبب وشاية المخبر السري المبنية على خلافات شخصية أو لأسباب طائفية، ظهرت طبقة واسعة من العائلات الفقيرة التي لم تجد ما تسد به رمقها، وهذا ما أخذ يهتم به مجبل ورفاقه.

النزوح زاد فقراء العراق (صباح عرار/ فرانس برس) 

يقول مجبل إنّ البداية كانت من خلال عائلة تسكن في نفس الزقاق الذي يسكن فيه في حي البريد ببغداد: "اعتقل الأب الذي كان يعمل خياطاً في محل يملكه، وحين اعتقل لم تعد عائلته تجد من ينفق عليها، وصرت أنا وجيراني نتكفل بمعيشتهم". يقول لـ"العربي الجديد": "مع تكثيف حملات الاعتقال التي شهدتها البلاد بين عامي 2003 و2009، وسقوط قتلى بأعداد كبيرة نتيجة التفجيرات الإرهابية وأعمال العنف الطائفية، ظهرت طبقة واسعة من العائلات الفقيرة نتيجة فقدانها رب الأسرة وغالباً هو المعيل الوحيد لها". يضيف: "منذ عام 2004 اتفقت مع أصدقائي ورفاق دراستي الجامعية أن يرسل كلّ واحد منهم شهرياً مبلغاً من المال لمساعدة عدد من الأسر التي أعرفها، وقد رحبوا بالفكرة". مجبل يلفت النظر إلى أنّ كلّ واحد من أصدقائه أخذ على عاتقه أن يجمع من آخرين المال أيضاً، وهو عمل دأبوا على ممارسته طوال السنوات السابقة، مؤكداً أنّ "المبالغ الكبيرة التي تصل سمحت لي أيضاً بمساعدة عدد أكبر من العائلات المحتاجة".

المساعدات المالية التي كانت تقدم للأسر المحتاجة ساعدتها في إكمال تعليم أبنائها وبناتها، بحسب مجبل الذي يؤكد أنّه منع بذلك عائلات من إدخال أبنائها في سوق العمل وحرمانهم من الدراسة لأجل توفير المعيشة، وتكفل بتوفير ما تحتاجه في يومها. يتابع: "فتيات وشبان أكملوا دراستهم الجامعية. عدد كبير منهم أتموا دراستهم في كليات مهمة كالطب والهندسة والتكنولوجيا واللغات. هناك من انطلقوا في مشاريع خاصة بعد إتمامهم دراستهم الجامعية. وهؤلاء جميعهم تعرضت أسرهم لهزات عنيفة من الصعب الصمود أمامها، فبعضهم قتل آباؤهم أو اعتقلوا لفترة طويلة. أشعر بأنّه أمر عظيم أنجزناه وما زلنا ننجز".




في بلدة قلعة سكر، بمحافظة ذي قار جنوبي العراق، نجح السكان في جمع 72 ألف دولار خلال ساعات قليلة بعد معرفتهم بوجود عائلة عراقية محتجزة في الهند داخل مستشفى، بسبب عدم تمكنها من دفع تكاليف العلاج الخاص بالأم التي تبرع ابنها بجزء من كبده لها. يقول مختار البلدة محمد جاسم لـ"العربي الجديد": "الخير في هذا الشعب بسنّته وشيعته ومسيحييه وكلّ طوائفه. لم يبق أحد إلا تبرع للعائلة بقدر ما يستطيع. وهذه ليست المرة الأولى، بل مرات كثيرة تتكرر في هذه البلدة وبلدات عراقية أخرى".