عديدة هي القطاعات في تونس التي تعاني بسبب هجرة أدمغتها، ما سيجعل البلاد تفتقر في المستقبل القريب إلى كثيرين من أصحاب الكفاءة في تخصصات عديدة
تستمرّ هجرة الأدمغة التونسية نحو أوروبا وبلدان الخليج العربي، خصوصاً في تخصصات الطب والصيدلة والهندسة. وفي ظل تنامي الظاهرة، دقّت العديد من النقابات المعنية بهذه القطاعات ناقوس الخطر، مؤكدة أن تونس قد تواجه، خلال السنوات القليلة المقبلة، نقصاً في الكفاءات.
واحتلّت تونس المرتبة الثانية عربياً بعد سورية، لناحية هجرة الكفاءات العلمية والنخبة من الأكاديميين. وبلغ عدد المهاجرين، خلال السنوات الست الأخيرة، بحسب أحدث الإحصائيات، نحو 95 ألف تونسي، 78 في المائة منهم جامعيون. ويعزو متخصصون الأسباب إلى تدني الأجور وعدم توفر المناخ والإمكانيات المناسبة للبحث العلمي.
وتعدّ البطالة أحد أهم أسباب هجرة الأدمغة. ويعاني نحو 4740 مهندساً و1500 طبيب و5000 أستاذ من أصحاب شهادات الدكتوراه، من البطالة. وحذّرت عمادة المهندسين من تفاقم ظاهرة هجرة المهندسين التونسيين، مؤكدة هجرة ما لا يقل عن 10 آلاف مهندس خلال السنوات الأخيرة.
ويقول عميد المهندسين التونسيين، أسامة الخريجي، لـ "العربي الجديد"، إنّ نحو ثلاثة آلاف مهندس يغادرون تونس سنوياً للعمل في الخارج، مشيراً إلى أن عدد المتخرجين سنوياً يقدر بنحو 8 آلاف، أي أن نحو 30 في المائة يهجرون البلاد، وهذا الرقم مرتفع. ويلاحظ أن الأسباب المادية هي إحدى أبرز دوافع هجرة المهندسين التونسيين، مضيفاً أنه بعد سنوات عدة يقضيها هؤلاء في الدراسة، لا يحصلون على أجر مناسب. وفي ظل غلاء المعيشة وتزايد أعباء الحياة والتفكير في المستقبل، يهاجر المهندسون التونسيون، خصوصاً إذا ما تلقّوا عروضاً مغرية في بلدان أخرى.
ويبين الخريجي أن قرار الهجرة ليس سهلاً، لأن الشخص سيبتعد عن محيطه وعائلته ويترك وطنه. لكن هناك دوافع عدة تقود الإنسان إلى التخلي عن كل ذلك من أجل تحسين وضعه المادي، أملاً في حياة أفضل. ويرى أن غالبية البلدان التي يهاجر إليها المهندسون التونسيون هي فرنسا وألمانيا وأميركا الشمالية وبلدان الخليج. ويقول الخريجي إنه على الرغم من الاحتجاجات المطالبة بتحسين ظروف المهندسين وزيادة الأجور، لم تحرك الحكومة ساكناً. ويبين أنهم ينتظرون نتائج مفاوضات الزيادة على أجور الأطباء والمهندسين والأساتذة الجامعيين بين اتحاد الشغل والحكومة، باعتبار أن هذه القطاعات معنية بتحسين الأجور. ويشير إلى أنه في ظل وجود زيادات تشجع المهندسين على البقاء في بلدانهم، فإن ذلك سيكون خطوة إيجابية ورسالة طمأنة من الحكومة. لكن التلكؤ سيزيد الهجرة.
ويلفت إلى أن المهندس في الوظيفة العامة يحصل في بداية عمله على 1300 دينار (نحو 450 دولاراً)، مبيناً أنه بالمقارنة مع الأردن والمغرب، فإن المهندس الأردني يحصل على أجر يساوي ثلاث مرات أجر المهندس التونسي، ونحو مرتين ونصف المرة للمهندس في المغرب. يضيف أن هذين البلدين راهنا على الكفاءات وسعيا إلى استقطابها، مشيراً إلى أنه لا يمكن الحديث عن تنمية من دون كفاءات تسهر على تطوير البلاد.
وتشهد هجرة الأطباء ارتفاعاً مستمراً من عام إلى آخر. ويتوقع متخصصون في الطب أن 1700 طبيب سيهجرون تونس حتى عام 2022 وستعاني البلاد من نقص في عدد الأطباء. وبين أحد استطلاعات الرأي أن 45 في المائة من الأطباء التونسيين الجدد المسجلين في هيئة الأطباء في عام 2017 غادروا تونس نحو وجهات مختلفة.
بالتوازي، تشهد العديد من المؤسسات الجامعية هجرة نخبتها، خصوصاً في ظل احتقان الأوضاع بين وزارة التعليم العالي واتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين "إجابة".
ويرى المنسق العام المساعد لاتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين "إجابة"، ونائب رئيس الاتحاد العالمي لنقابات التعليم، زياد بن عمر، في حديث لـ "العربي الجديد"، أنّ نزيف هجرة الأساتذة الجامعيين متواصل من جراء سياسة الحكومة وضرب الجامعة الحكومية والأستاذ الجامعي. ويبيّن أن الدولة تنفّر بسياستها الحالية أدمغتها، وهو ما يتضح من خلال عدم رد الاعتبار للأساتذة الجامعيين وشهاداتهم العلمية، وعدم تحسين ظروف عملهم وظروف البحث العلمي، إضافة إلى ضعف راتب الأستاذ الجامعي التونسي الذي يصنف من الأقل عربياً.
ويقول بن عمر إن نزيف هجرة الأساتذة الجامعيين الباحثين يعد بالآلاف منذ عام 2011. ويقدر عدد الأساتذة الجامعيين الباحثين الذين هاجروا بنحو 4500 أستاذ، من بين نحو 12000 أستاذ جامعي باحث. ويبيّن أن هجرة الأدمغة تحصل بوسائل مختلفة، عن طريق وكالة التعاون الفني، إذ أن الأرقام الحالية تشير إلى هجرة 1600 أستاذ، وهناك من يغادرون بصفة فردية وعددهم في حدود 4 آلاف أستاذ.
ويبيّن بن عمر أنّ مئات الأساتذة الجامعيين بصدد المغادرة والهجرة بسبب إغلاق أبواب الانتداب أمام الأساتذة منذ نحو أربعة أعوام، ما يعني وجود نحو 5 آلاف أستاذ عاطل من العمل. ويشير إلى أنّ المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية كشف أن الأساتذة المتواجدين في الخارج يقدرون بعشرات الآلاف، مبيناً أنّه على الرغم من الاحتجاجات والاعتصامات التي خاضها الأساتذة الجامعيون، فإن التسويف والمماطلات مستمرة. ويؤكد أنه غير متفائل بوضع حد لنزيف هجرة الأساتذة الجامعيين، وهناك محاولات لضرب الجامعات العامة، من خلال سياسة تشجيع الجامعات الخاصة، إضافة إلى تشجيع أبناء الأثرياء على ارتيادها بهدف ضرب التعليم العام.