ما تعيشه مدينة طرابلس اللبنانيّة يكاد يكون الأسوأ على الإطلاق خلال شهر رمضان. هذه المدينة التي اعتادت أن تُضاء شرفاتها ومحلاتها لاستقبال رمضان، تعيش اليوم واقعاً مختلفاً في ظل الفقر وكورونا، ولا بديل عن الثورة
في شهر رمضان من هذا العام، عاشت مدينة طرابلس (شمال لبنان) إيقاعاً مختلفاً. فالمدينة التي تسير في شوارعها العريضة السيارات والباصات والدراجات من دون شارات ضوئية ترشدها في حركتها، وتفتح ثم تقفل فيها المقاهي في ساعات مختلفة باختلاف أمزجة أحياء المدينة وروّادها، تنتظم فجأة في شهر رمضان وكأنّ فيها ساعة بيولوجيّة توقظها أو تُغمض لها عيونها من غير منبّه. مع ذلك، وعلى الرغم من انتفاء حاجتها إلى من يوقظها، ما زالت للمسحّراتي مثلاً مساحته في المدينة باعتباره جزءاً من تقاليد رمضان في طرابلس. ولكن، على من يدور المسحّراتي إذا كان أهل طرابلس لا ينامون في ليل المدينة المشتعل بالمولوتوف؟
تقاطع شهر رمضان هذا العام مع ثورة 17 تشرين (بدأت في 17 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 إثر الإعلان عن خطط حكومية لفرض المزيد من الضرائب على البنزين والتبغ، إضافة إلى استحداث ضريبة على استخدام تطبيقات المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت، مثل واتساب)، فأصبحت المدينة تتبع إيقاعين متناغمَين، خصوصاً في ساعات الليل. يقول الصحافي الطرابلسي صهيب جوهر إنّ الاحتجاجات توقّفت لفترة قصيرة بسبب تفشّي فيروس كورونا وإعلان الدولة التعبئة العامّة، وإنّ أهالي المدينة، خصوصاً شبابها، كانوا ينتظرون عودة الاحتجاجات ليطلقوا صرختهم في وجه السلطة الحاكمة. ويشرح: "لكنهم لم يستطيعوا الانتظار ريثما تنتهي أزمة كورونا، خصوصاً أنّ هذه الأزمة بالذات ضاعفت الأسباب التي من أجلها ثاروا في الأساس". يضيف: "لهذه الأسباب وغيرها، تزامنت عودة الاحتجاجات في الشارع مع حلول شهر رمضان لأن الشباب ما عاد في استطاعتهم تحمّل تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية".
اقــرأ أيضاً
إذاً، كانت عودة الاحتجاجات محتّمة في رمضان أو في غيره من الأشهر. مع ذلك، يختلف إيقاع الثورة في هذا الشهر مثله مثل إيقاع المدينة ككلّ. في هذا السياق، يشير جوهَر إلى أنه في الأيام التي كانت تحتدم فيها الاحتجاجات، كان المتظاهرون ينزلون إلى الشارع قبل موعد الإفطار، يتجمّعون في ساحة عبد الحميد كرامي، والتي تعرف أيضاً بساحة النور، قبل أن ينطلقوا في مسيرات احتجاجية مناهضة للسلطة السياسية ومندّدة بالأوضاع المعيشيّة الصعبة التي تشهدها البلاد. وفي دليل على الغضب العارم الذي في داخلهم، خصوصاً أنّ معظم هؤلاء الأشخاص إمّا يعانون من البطالة وإما من الفقر المدقع، لوحظ أنّ غياب الثوار من الشوارع في موعد الإفطار لم يتعدّ النصف ساعة أو الساعة كأقصى حدّ. ويقول أبو محمود شوك، المسؤول عن مجموعة حرّاس المدينة، إنّ الثوار يأكلون لقمة بسرعة ثم يسارعون للعودة إلى الساحة.
هذا الغياب الخاطف عن الساحة يعززه إقفال المساجد الذي ترافق مع التدابير الوقائية لتفشّي فيروس كورونا. ويشير أبو محمود شوك إلى أن أداء صلاة العشاء وصلاة التراويح التي تلي الإفطار لم يعد ممكناً، ممّا سرّع من عودة الثوار ليلاً إلى الشوارع. وفي ليلة سقوط المصارف، كما سمّاها الثوار على مواقع التواصل الاجتماعي، حين أضرموا النار في المصارف وعمدوا إلى تكسير واجهاتها احتجاجاً على احتجازها أموال المودعين وعلى السياسات المالية والمصرفية بشكل عام، كانت الصدامات مع الجيش تستمر لساعات الفجر الأولى. ويقول المسؤول عن حرّاس المدينة إنّ السحور لم يكن ممكناً في ليالي طرابلس المشتعلة. ويشرح: "كان المتظاهرون يواظبون على البقاء في الساحات حتى ساعات متأخرة بعد موعد أذان الفجر". وفي هذه الظروف، يصبح الحصول على كعكة ساخنة مغامرة لا يمكن للمتظاهر أن يتحمّل كلفتها. فبحسب أبو محمود، بدلاً من الركض خلف كعكة، كان المتظاهرون يركضون هرباً من عناصر الجيش. بالنسبة للمتظاهرين، النوم مع معدة فارغة أفضل مائة مرّة من النوم في الثكنات.
إنها المرّة الأولى التي تعيش فيها مدينة طرابلس شهر رمضان بهذه الطريقة. حتى لو اجتمعت كل مآسي المدينة على مرّ السنوات الماضية، مع ما عايشته من معارك أهلية وفقر وإهمال من قبل المسؤولين في الدولة ومن قبل نوّابها، يحتلّ هذا الشهر المرتبة الأولى في لائحة أيام المدينة السيئة. يعلّق أبو محمود شوك قائلاً: "في ظل الخوف من تفشّي فيروس كورونا والتعبئة العامّة من جهة، وتدهور سعر صرف الليرة في السوق السوداء في مقابل الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية من جهة ثانية، عدا عن حال المدينة وأهلها المتردّي منذ عقود، كيف لا يترافق رمضان مع الثورة؟". يحكي أبو محمود شوك عن لقاء جمعه مؤخراً مع أحد الموقوفين إثر الاصطدام بين المتظاهرين وعناصر الجيش. ولدى سؤاله عمّا إذا كان فعلاً متورطاً في أعمال الشغب، يقول المتظاهر الموقوف: "حملت "التينر" ونزلت به إلى الشارع وكنت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن أحرق نفسي وإما أن أحرق المصرف".
وبعيداً عن الركض في الشوارع هرباً من الجيش، أصبح الهرب من الجوع مهمّة صعبة أيضاً. فالعدد الأكبر من سكّان المدينة التي تعتبر من الأفقر على ساحل المتوسّط لم يعد في إمكانه تحمّل كلفة كعكة طرابلسية واحدة. أما في ساعات النهار، حيث لا احتجاجات ولا مسيرات تجوب الشوارع، تبدو طرابلس وكأنها غير معنيّة بأي شيء على الإطلاق. هي غير معنيّة بأزمة كورونا، إذ لا كمّامات تغطّي الوجوه، كما تغيب مظاهر شهر رمضان في الشوارع والأسواق. الكرابيج، وهي حلوى رمضان الشهيرة، معروضة في أحد المحال لكنها لا تحتلّ فيه الصفّ الأول. أمّا رحلة البحث عن قنديل ملوّن مضاء على شرفة ما، أو هلال متدلٍّ من السقف خلف واجهة محلّ تجاري أو أولاد في السوق يختارون حلوى ما بعد الإفطار، فهي نزهة من دون جدوى. جالساً خلف مكتب صغير في محلّه الذي لا يدخله زبون واحد، يعلّق أحد تجار الألبسة بأسف: "رمضان؟ وين في رمضان؟".
تقاطع شهر رمضان هذا العام مع ثورة 17 تشرين (بدأت في 17 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 إثر الإعلان عن خطط حكومية لفرض المزيد من الضرائب على البنزين والتبغ، إضافة إلى استحداث ضريبة على استخدام تطبيقات المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت، مثل واتساب)، فأصبحت المدينة تتبع إيقاعين متناغمَين، خصوصاً في ساعات الليل. يقول الصحافي الطرابلسي صهيب جوهر إنّ الاحتجاجات توقّفت لفترة قصيرة بسبب تفشّي فيروس كورونا وإعلان الدولة التعبئة العامّة، وإنّ أهالي المدينة، خصوصاً شبابها، كانوا ينتظرون عودة الاحتجاجات ليطلقوا صرختهم في وجه السلطة الحاكمة. ويشرح: "لكنهم لم يستطيعوا الانتظار ريثما تنتهي أزمة كورونا، خصوصاً أنّ هذه الأزمة بالذات ضاعفت الأسباب التي من أجلها ثاروا في الأساس". يضيف: "لهذه الأسباب وغيرها، تزامنت عودة الاحتجاجات في الشارع مع حلول شهر رمضان لأن الشباب ما عاد في استطاعتهم تحمّل تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية".
إذاً، كانت عودة الاحتجاجات محتّمة في رمضان أو في غيره من الأشهر. مع ذلك، يختلف إيقاع الثورة في هذا الشهر مثله مثل إيقاع المدينة ككلّ. في هذا السياق، يشير جوهَر إلى أنه في الأيام التي كانت تحتدم فيها الاحتجاجات، كان المتظاهرون ينزلون إلى الشارع قبل موعد الإفطار، يتجمّعون في ساحة عبد الحميد كرامي، والتي تعرف أيضاً بساحة النور، قبل أن ينطلقوا في مسيرات احتجاجية مناهضة للسلطة السياسية ومندّدة بالأوضاع المعيشيّة الصعبة التي تشهدها البلاد. وفي دليل على الغضب العارم الذي في داخلهم، خصوصاً أنّ معظم هؤلاء الأشخاص إمّا يعانون من البطالة وإما من الفقر المدقع، لوحظ أنّ غياب الثوار من الشوارع في موعد الإفطار لم يتعدّ النصف ساعة أو الساعة كأقصى حدّ. ويقول أبو محمود شوك، المسؤول عن مجموعة حرّاس المدينة، إنّ الثوار يأكلون لقمة بسرعة ثم يسارعون للعودة إلى الساحة.
هذا الغياب الخاطف عن الساحة يعززه إقفال المساجد الذي ترافق مع التدابير الوقائية لتفشّي فيروس كورونا. ويشير أبو محمود شوك إلى أن أداء صلاة العشاء وصلاة التراويح التي تلي الإفطار لم يعد ممكناً، ممّا سرّع من عودة الثوار ليلاً إلى الشوارع. وفي ليلة سقوط المصارف، كما سمّاها الثوار على مواقع التواصل الاجتماعي، حين أضرموا النار في المصارف وعمدوا إلى تكسير واجهاتها احتجاجاً على احتجازها أموال المودعين وعلى السياسات المالية والمصرفية بشكل عام، كانت الصدامات مع الجيش تستمر لساعات الفجر الأولى. ويقول المسؤول عن حرّاس المدينة إنّ السحور لم يكن ممكناً في ليالي طرابلس المشتعلة. ويشرح: "كان المتظاهرون يواظبون على البقاء في الساحات حتى ساعات متأخرة بعد موعد أذان الفجر". وفي هذه الظروف، يصبح الحصول على كعكة ساخنة مغامرة لا يمكن للمتظاهر أن يتحمّل كلفتها. فبحسب أبو محمود، بدلاً من الركض خلف كعكة، كان المتظاهرون يركضون هرباً من عناصر الجيش. بالنسبة للمتظاهرين، النوم مع معدة فارغة أفضل مائة مرّة من النوم في الثكنات.
إنها المرّة الأولى التي تعيش فيها مدينة طرابلس شهر رمضان بهذه الطريقة. حتى لو اجتمعت كل مآسي المدينة على مرّ السنوات الماضية، مع ما عايشته من معارك أهلية وفقر وإهمال من قبل المسؤولين في الدولة ومن قبل نوّابها، يحتلّ هذا الشهر المرتبة الأولى في لائحة أيام المدينة السيئة. يعلّق أبو محمود شوك قائلاً: "في ظل الخوف من تفشّي فيروس كورونا والتعبئة العامّة من جهة، وتدهور سعر صرف الليرة في السوق السوداء في مقابل الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية من جهة ثانية، عدا عن حال المدينة وأهلها المتردّي منذ عقود، كيف لا يترافق رمضان مع الثورة؟". يحكي أبو محمود شوك عن لقاء جمعه مؤخراً مع أحد الموقوفين إثر الاصطدام بين المتظاهرين وعناصر الجيش. ولدى سؤاله عمّا إذا كان فعلاً متورطاً في أعمال الشغب، يقول المتظاهر الموقوف: "حملت "التينر" ونزلت به إلى الشارع وكنت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن أحرق نفسي وإما أن أحرق المصرف".
وبعيداً عن الركض في الشوارع هرباً من الجيش، أصبح الهرب من الجوع مهمّة صعبة أيضاً. فالعدد الأكبر من سكّان المدينة التي تعتبر من الأفقر على ساحل المتوسّط لم يعد في إمكانه تحمّل كلفة كعكة طرابلسية واحدة. أما في ساعات النهار، حيث لا احتجاجات ولا مسيرات تجوب الشوارع، تبدو طرابلس وكأنها غير معنيّة بأي شيء على الإطلاق. هي غير معنيّة بأزمة كورونا، إذ لا كمّامات تغطّي الوجوه، كما تغيب مظاهر شهر رمضان في الشوارع والأسواق. الكرابيج، وهي حلوى رمضان الشهيرة، معروضة في أحد المحال لكنها لا تحتلّ فيه الصفّ الأول. أمّا رحلة البحث عن قنديل ملوّن مضاء على شرفة ما، أو هلال متدلٍّ من السقف خلف واجهة محلّ تجاري أو أولاد في السوق يختارون حلوى ما بعد الإفطار، فهي نزهة من دون جدوى. جالساً خلف مكتب صغير في محلّه الذي لا يدخله زبون واحد، يعلّق أحد تجار الألبسة بأسف: "رمضان؟ وين في رمضان؟".