مجدّرة حمراء

16 سبتمبر 2014
وينزل سعيد إلى صخرته "المكتوبة باسمه" (نيكولا عصفوري/فرانس برس)
+ الخط -

جميلٌ أن نعرف أشخاصاً، ما زالوا يعتبرون البساطة من الأخلاق الحميدة، ويمارسونها... لكن على طريقتهم الخاصة، بل الخاصة جداً.

سعيد، أحد هؤلاء. فالحياة بالنسبة إليه سهلة للغاية. لا تعقيدات فيها، ولا "بريستيج"، أو مظاهر فضفاضة. لا أحد يعلم ما الذي يراه سعيد في نومه. لكن في كلّ صباح، تُسرّ له حياته، أن يعيش يومه كما هو. فإن حضر الشيء مضى به، وإن غاب استغنى عنه.

في ما مضى، كان لسعيد زوجة وابنان. لكنّه غاب عنهم، منذ زمن طويل، فغابوا عنه بدورهم. مضى كلٌّ في سبيله، بذخيرة مختلفة عن الآخر من التجربة. وبالنسبة إليه، فقد كانت نزوة مسؤولية فريدة في سيرته، سرعان ما تخلى عنها.

يستيقظ من نوم طويل في غرفته المعتمة، في أحد أزقة شارع صبرا، الأكثر شعبية في بيروت. يسارع للهروب من جنائزية الغرفة سريعاً. ومع خروجه إلى ساحة المنطقة بضوئها الساطع، يتهيأ له من "يضيّفه" منقوشة زعتر. يأكلها، ويحدّث مضيفه، أحاديث تافهة للغاية ثمناً لها.

يستأنس المضيف إلى حين، ثمّ يندم على تلك اللحظة التي دعاه فيها. لكنّه لا ينفك يكرّر الدعوة، بين يوم وآخر.

يحمل سعيد كيساً، من أحد الدكاكين. قد ينال هناك بعض ألواح الشوكولا الصغيرة "أبو الـ250 ليرة لبنانية"، أو أكياس "شيبس"، وقد ينالها في دكان آخر.

لا يصرف سعيد قرشاً واحداً، على طعام . فكل ماله، على قلته، مرصود للكحول. يعمل في أحيان قليلة، فينقل البضائع بهمّة ابن الخامسة والخمسين. ويدّعي معظم الأحيان إصابته، فيتوقف عن العمل، وينال أجره. ويشتري بكلّ ما جناه زجاجة "ديوارز" ويمشي.

في إحدى المرات، اشترى دراجة نارية مسروقة، بمائة دولار، لكنّ الدرك "سرقوها" منه بدورهم.

لم يأسف عليها، واستبدلها مجدداً بالمشي، فهو أفضل للشرب. يشتري زجاجته من كاراكاس، ولا يصل إلى مقرّه الأزلي، عند صخور كورنيش المنارة البحرية، قبل أن يبتلع نصفها على الأقل.

يقفز عن الدرابزين، وينزل إلى صخرته "المكتوبة باسمه". وكائناً من كان عليها، يفضّل أن يبتعد حال رؤية سعيد، كي لا يزعجه بقصصه التي لا تنتهي. فلو كان حديث العهد بالمكان علق، وهرب بعد حين.

لا تهمّ سعيد الأمواج، أكانت مرتفعة أم منخفضة. ولا ينتبه للمياه الآسنة المسلطة على الصخور، أكانت هادئة أم نشطة. يوزع من أكياسه، على أهل المكان. ويرحّب كعهده بالأقدمين.

يستمر بالشرب من زجاجته.. وينتظر منذ تسعة أعوام، صحن مجدّرة حمراء، وعدته به. ولا أنوي الوفاء بوعدي. فربما سعيد الطيب الذي لا يؤذي أحداً، ولا يتعاطى السياسة، أو ينتخب، يعيش على هذا الأمل فحسب.
دلالات
المساهمون