محمود بكر.. طفل البحر الغزي الذي يحبه الجميع

28 يناير 2017
يحبّ مادتي التاريخ والجغرافيا (محمد الحجار)
+ الخط -
قليلة هي المساحات التي يقصدها الغزيّون للتمويه عن أنفسهم في قطاع غزة المحاصر. من بين هذه الأماكن البحر وكورنيش غزة وساحة الميناء ووسط المدينة وساحة الجندي المجهول. هذه المناطق تعدّ مصدر رزق للباعة الجوالين، وحتى الصغار منهم. محمود بكر (11 عاماً)، هو أحد هؤلاء. له أسلوبه الخاص في البيع. غالباً ما لا تفارقه الابتسامة، ويتحدّث إلى الناس الذين يقتربون منه. وهذه الألفة والمودة تشجعهم على الشراء منه. عادة ما يرفض أي مال إذا لم يشتر الزبون منه شيئاً، فهو بائع وليس متسولاً.

معظم الذين يقصدون الميناء أو الكورنيش يعرفون محمود. يطلق عليه البعض "طفل الكورنيش" أو "طفل البحر". عائلته تقطن قرب البحر، كما أنّ معظم أفرادها يعملون في الصيد منذ سنوات طويلة. حتّى أن محمود، رغم صغر سنّه، يعرف الكثير عن البحر ومهنة الصيد.

هو في الصفّ السادس ابتدائي. قبل خمسة أعوام، بدأ العمل، من دون أن يؤثّر عمله على أدائه في المدرسة أو علاماته. يومياً، يصحو عند السادسة صباحاً، ويتوجّه إلى المدرسة، ثم يعود إلى البيت عند الظهر. يتناول الطعام مع أهله، ثم ينتهي من واجباته المدرسيّة، ويتوجّه عند الثالثة والنصف إلى منطقة الميناء، متنقلاً بين المقاهي بهدف البيع. يقول لـ"العربي الجديد: "لا أستطيع الخروج والبدء في البيع قبل موافقة أمي أو أبي". يتحدّث عن مدى حبّه لعائلته، وحرص والدته على الاحتفال بعيد ميلاده وأشقائه كل عام. يبيع محمود الحلويات والمكسّرات والترمس، والتي غالباً ما يقبل على شرائها الناس أثناء التنزه. ويلفت إلى أنّه يفضّل الكورنيش أكثر من الأماكن الأخرى.



هذا الطفل ليس صديقاً لأهالي غزة فحسب، بل نجح أيضاً في مصادقة الوفود الأجنبية التي تأتي إلى شاطئ غزة من حين إلى آخر. وإذا صودف وجود مترجم مع أي وفد، يطلب الأخير معرفة قصة محمود، وسرّ ابتسامته، وسبب إقبال الناس على الشراء منه. بات الناشط الإيطالي أناتولي صديقاً لمحمود. وكلّما جاء لزيارة القطاع، يأتي إلى الشاطئ للاطمئنان عليه.

يحبّ هذا الطفل مادتي التاريخ والجغرافيا "بسبب المعلومات الكثيرة التي تحتويها". وعادة ما يحصل على علامات جيدة فيهما. لا يحبّذ العنف، وتراه مدركاً للخطأ الذي يرتكبه المدرسون حين يضربون التلاميذ. مع ذلك، ولأنّه مرح، دائماً ما يطلب من المدرسين الضحك. برأيه، أمر كهذا كفيل بتعزيز المحبّة ونشر الإيجابية في المكان. وهذا يقرّبه من بعض المدرسين الذين يقدّرون جهده، خصوصاً أنّه يعمل في فترة ما بعد الظهر.

العدوان الإسرائيلي الأخير كان قاسياً على محمود، هو الذي خسر صديقيه ياسر وزكريا، وهما اثنان من بين الأطفال الأربعة الذين راحوا ضحية قذائف الاحتلال على شاطئ البحر. له ذكريات كثيرة معهما، فقد كانا أقرب صديقين له. وشعر بالفرق حين عاد إلى المدرسة وتذكّر الأماكن التي كانوا يلعبون فيها، بالإضافة إلى لعبة "الشريدة" و"أم الخمسة عشرة".

والد محمود، ويدعى جميل بكر (50 عاماً)، يعمل منقذاً بحرياً، هو الذي تربّى وأشقاءه قرب البحر. حين كان صغيراً، عمل صيّاداً مساعداً مع عائلته. كذلك، يعمل نجاراً سعياً إلى توفير لقمة العيش لعائلته، إذ يبلغ عدد أبنائه 12 (سبع بنات وخمسة صبيان). ويشكو بسبب تراجع مهنة النجارة هذه الأيام. لذلك، يعتمد على الراتب الذي يتقاضاه من عمله كمنقذ بحري، والذي لا يتجاوز 250 دولاراً، بالإضافة إلى عمل أبنائه.



يقول لـ"العربي الجديد": "أحرص على أن يأكل أولادي اللقمة الحلال، وهذا ما أزرعه فيهم. والأهم، الاعتماد على النفس من دون الشكوى لأحد. هكذا يثق فيهم الناس". ويلفت إلى أن جميع أبنائه يعملون، وباتوا يعرفون مدى أهمية العمل لكسب لقمة العيش. وعادة ما يتفق الأطفال على الانتشار في أماكن مختلفة. يقول الوالد إنه في كثير من الأحيان، يتوجه إلى شاطئ البحر والساحات الأخرى عند التاسعة مساء ليترافقوا جميعاً إلى البيت.

خلال عمله، كثيراً ما يجد محمود هواتف على الأرض، فيحضرها إلى والده. وحين يتّصل أصحابها، يعيدها إليهم. يضيف أنه في أحد الأيام، "عثر محمود على ساعة ثمينة وأحضرها لي. حينها، قلت له إنه إذا ما واجه أمراً كهذا، يفضّل أن يقف في مكانه، وينتظر أن يأتي صاحبها ويسأل عنها". بالإضافة إلى محمود، يعمل كل من أشقائه أحمد (16 عاماً)، ومحمد (14 عاماً)، وهاني منصور (9 أعوام). لكنّ محمود أكثرهم جهداً وقرباً من الناس، بحسب ما يقول الوالد. يحبّ هذا الطفل عمله. وفي الوقت نفسه، يبدو سعيداً لأنه قادر على التوفيق بين الدراسة والعمل. ولن تفارق الابتسامة وجهه.