العيد عراب... "راهب الحديد" في الجزائر

13 مايو 2017
لم يتخلّ عن روح الاختراع فيه (العربي الجديد)
+ الخط -

يمثّل العيد عراب جيلاً من المخترعين الجزائريين الذين اصطدمت قوّة طموحاتهم بضعف استعداد الوضع العام لاحتضانها، فهاجر من هاجر ولم تبق إلا ثلّة تصارع الظروف، وهو واحد منها.

شكّل الربع الأوّل بعد الاستقلال الوطني في الجزائر، مساحة لانطلاق الأحلام والطموحات والمواهب والمشاريع لدى الحكومة والأفراد معاً، كثمرة للتحرّر من القيد الفرنسي الذي كان كبح كلّ ذلك، ورغبة من الجزائريّين في أن يخطّطوا لمستقبلهم الذي أرادوه مختلفاً عن ماضيهم الاستعماري المظلم. خلال هذه الفترة، أبدع كثيرون في مجالات عدة، في إطار مشروع وطني متكامل سرعان ما تلاشى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، الذي كان مقدّمة لهجرة الأدمغة وعشرية من العنف والإرهاب.

من بين هؤلاء المبدعين، العيد عراب المولود في عام 1954، والذي يحتفل هذه الأيّام بالذكرى السادسة والأربعين لعمله في الحدادة الفنية في مدينة الأغواط (400 كيلومتر إلى جنوب الجزائر العاصمة) في عام 1971، داخل محلّ تابع لأحد مجاهدي ثورة التحرير ويدعى سي مبروك.

كانت البداية مع النوافذ والأبواب، إذ راح يضفي عليها لمسات خاصّة حوّلتها إلى تحف استقطبتها معارض عدّة. "كانت مسيرة التشييد قد انطلقت، وكان الحدّادون ينجزون نوافذ وأبواباً لحماية المحال والبيوت، وكنت أنجزها لحماية الذوق، كرسالة مبكّرة منّي مفادها: علينا، ونحن نبني، ألا نقع في فخ الإسمنت والحديد".

هذا الذوق الفنّي للعيد عراب، بالتوازي مع انخراطه في الحدادة الفنية، جعله يشارك نخبة من الفنّانين الشّباب في تأسيس فرقة موسيقية اسمها "ناس العشرة"، تأثّراً بفرقة "ناس الغيوان" المغربية. يقول: "كان البعض يرون في ذلك مفارقة، إذ أقضي نهاري مع الحديد وليلي مع الموسيقى، وكنت منسجماً تماماً، إذ لم أكن أفرّق بين الأمرين، بل إنّني كنت أستلهم تصاميمي من الموسيقى، فيصبح الحديد بين أصابعي شبيهاً بالعجين، أصنع به ما أشاء". يضيف: "ترعبني الحدادة التي تمارس بلا روح فنية".

 في ورشته... (العربي الجديد) 


في عام 1981، احتضنت المدينة "معرض الابتكار والاعتماد على النفس"، فشكّل ذلك فرصة لـ "راهب الحديد"، كما يلقبه بعض أصدقائه، لأن يظهر قدراته في تطويع الحديد، فشارك وقد صنع أول سيّارة صغيرة ذات محرّك في الجزائر. يقول لـ "العربي الجديد": "طغى الاستعجال على تنظيم المعرض، فكان لدي عشرة أيام لإنجاز المهمّة، وكان اختياري للسّيارة يومها رسالة في الذكرى التاسعة عشرة للاستقلال، مفادها أن علينا أن نتوجّه إلى الصناعات الكبرى، حتى يكتمل مفهوم الاستقلال الوطني لدينا، تماشياً مع الروح السائدة يومها في المعسكر الاشتراكي".

روح الشباب وشغفه بالرياضة، جعلاه يصمم في وقت لاحق، سيّارة رياضية ذات محرّك أكثر قوّة، وكانت التجربة الأولى من نوعها في الجزائر أيضاً، إلى جانب درّاجة تشبه دراجة "هارلي ديفيدسون". وكان أوّل المبادرين في الجنوب الجزائري لصناعة العتاد الخاص برياضة كمال الأجسام، في وقت كان هذا العتاد يُستورد من قبل دول غربية.

بات العيد عراب بهذه الأعمال، نموذجاً يمثّل الطموح في الشارع الجزائري، و"كان التشجيع يصلني من مختلف شرائح المجتمع، فبادرت إلى إنجاز طائرة ذات جناحين تحمل شخصاً واحداً، ونجحت في إطلاقها. لكنّ مؤشرات كثيرة حالت دون أن أستمرّ في التعامل مع السماء، فاكتفيت بالأرض". يواصل بنبرة تشوبها المرارة: "ما أصعب أن يكون طموح المواطن أعلى من استعداد الوضع العام، وقد بقي هذا المعطى متحكّماً في الحالة الجزائرية حتى اليوم".




مثل عدد من المبدعين الجزائريين، اصطدم عراب بما عُرف في الجزائر بـ "العشرية السوداء"، خلال تسعينيات القرن الماضي، حين كانت سلطة الموت أقوى من سلطة الحياة، فكفّ يده عن التصاميم الكبيرة، لأنها "تقتضي الحركة والبحث عن قطع غيار مناسبة، والخروج إلى الساحات العامة، والتواصل مع الناس، وكانت كلها طرقاً معبّدة إلى الاغتيال أو الاختطاف على يد الجماعات المسلّحة، بهدف اسغلال موهبتي في خدمة احتياجاتها، وهذا ما كنت أرفضه تماماً".

ومع انقشاع غيمة العنف والإرهاب مطلع القرن الواحد والعشرين، كان يهمّه أن يعلن للرأي العام أنه لم يتخلّ عن روح الاختراع فيه، فأطلق سيّارة رياضية ذات محرّك ذي أربع أسطوانات من نوع "باغي" وسيارة "كوكسينيل فولزفاغن" معدّلة. يقول: "شكّلت عودتي إلى السّاحة، إلى جانب عودة فنانين آخرين، رسالة مفادها أنّ خطاب الإرهاب لم يستطع أن يقضي على روح الفنّ والإبداع في الجزائر".

في عمر الثالثة والستين، ما زال العمّ العيد يفتح ورشته يومياً في قلب مدينة الأغواط التي تتميّز بكثرة زواياها الصوفية، ويرحّب بالراغبين في التعلم من الشباب، رافضاً كأيّ صوفي زاهد أن يسخّر موهبته في الحدادة الاستهلاكية. "ماذا أفعل بالمال الكثير، إذا خنت خياري الفني بتوريطه في غير ما يجب أن يكون عليه"؟

هذه المسيرة الحافلة بالإنجازات، رفعت العمّ العيد إلى مصاف الشّخصيات الرمزية لدى شباب المدينة، فهم ينظرون إليه بإعجاب. "كان قادراً على أن يهاجر ولم يفعل، أو يغيّر الاتجاه إلى ما يريح الأعصاب ويملأ الجيوب ولم يغيّر، أو يميّع موهبته في المنحى الاستهلاكي ولم يميّع، أو يحتكرها لنفسه ولأسرته الصّغيرة ولم يحتكر، وهو بهذا انتصر للإنسان والفنّان داخله، وهزم الظروف والتحوّلات"، يقول المسرحي هارون الكيلاني.

دلالات