لم تنتهِ النكبة الفلسطينية، وربما لا تنتهي خلال المدى المنظور، وهي أصلاً إذا أردنا أن نكون دقيقين سابقة على العام 1948 وما شهده من أحداث معروفة بما فيها تشريد قرابة 800 ألف فلسطيني نحو الدول العربية القريبة.
وعليه، فللنكبة الفلسطينية محطات قد تبدأ من تصريح بلفور أو فرض الانتداب البريطاني على فلسطين وتشريع الأبواب أمام أفواج اليهود. وتتابع مسيرتها، لتتواصل إلى الآن بدليل المذبحة التي شهدتها مسيرات العودة في قطاع غزة والضفة الغربية وأدت إلى سقوط عشرات الشهداء وآلاف الجرحى. متظاهرون يسيرون بخطى واثقة نحو أرضهم وشهادتهم، يحملون أحلامهم على محمل الجد، ينتظرهم قناصة مدججون بالسلاح والحقد يطلقون عليهم النار بدم بارد فتظلل الجنازات مدينة غزة ومخيماتها.
هناك طرف واضح يستثمر في هذا الحدث التأسيسي ويبني عليه انطلاقاً من الالتزام الأميركي بالمشروع الصهيوني في حلقته الراهنة، والذي يزايد فيه ترامب وكوشنر وبامبيو على نتنياهو وليبرمان وسائر عُتاة السلطة الصهيونية. والحصيلة أنّنا أمام معادلة واضحة هي مزيد من عمليات القتل من أجل مزيد من تشريد الشعب الفلسطيني عن أرضه من جهة، ومن استجلاب المهاجرين اليهود إلى "وطنهم الديني القومي" على أرض فلسطين من جهة ثانية.
لا تقطع إسرائيل الطريق فقط على الحياة السوية للشعب الفلسطيني بما فيه إقامة دولته وعاصمتها القدس على أرض آبائه وأجداده، بل تنطلق أيضاً مما هو أفدح عندما تساوي بين اللاجئ الفلسطيني واليهود العرب الذين اصطادتهم الدعاية الصهيونية وألحقتهم بها. وبذلك ترسو معادلة قوامها لاجئون في مواجهة لاجئين.
وبالرغم من السواد الحالك في الوضع العربي والدولي الذي تهيمن عليه أميركا، تنهض طفلة فلسطينية في أحياء الضفة لتصفع الجندي الإسرائيلي باعتباره رمزاً للقمع والقهر والتشريد. تصفعه وهي تعرف أنّ ثمن ذلك أن تقبع في زنازين العدو. والفتاة عهد التميمي ليست يتيمة، بل لها أب وأم وإخوة وأخوات ورفيقات والكلّ يتشبث بأرضه. فلم تعد معادلات الرحيل في قاموس الشعب الفلسطيني منذ عقود وعقود، فقد تعلم الدرس جيداً .
التشبث بالأرض وتراثها وذاكرتها ليست أيقونة الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وفي قطاع غزة، بل هي أيضاً أيقونته في ديار الشتات سواء أكانت عربية أو غير عربية. لذلك تحضر فلسطين في الأجيال وأرجاء المعمورة مع أنّها كدولة غير قائمة فعلاً، لكنّها كقضية وشعب مستمرة وتتقدم.
بموجب الإحصاء الفلسطيني الأخير، فإنّ عدد سكان فلسطين داخل أراضي عام 1967، بلغ 4.780.978 نسمة، منهم حوالي مليون و980 ألف لاجئ معظمهم في غزة. نسبة المسلمين منهم 97.9 في المائة، والمسيحيين لم يتجاوزوا 1 في المائة، ما يعني أنّ المشروع الصهيوني استهدف منشأ المسيحية الأول، علماً أنّه تاريخياً كان ثلث الفلسطينيين من المسيحيين في عام 1948، لكنّ هذه النسبة آخذة في الانخفاض حتى التلاشي. الاستيطان أصاب من المسيحيين مقتلاً، كما يصيب رمزية كنيسة القيامة والأقصى والقدس بكلّ مقدساتها.
اللافت في الإحصاءات هذه أنّ معدل البطالة وصل إلى 26.3 في المائة، لكنّ الأكثر دلالة هو وجود أكثر من ربع مليون فرد لديه إعاقة واحدة على الأقل. وهي إعاقات مصدرها "المرض الاستيطاني العنصري".
أما الفلسطينيون خارج فلسطين التاريخية فهم أكثر من 6 ملايين، أكثر من 5.2 ملايين منهم لاجئون في الدول العربية؛ الأردن وسورية ولبنان، ومسجلون في وثائق الأونروا. من تبقى منهم على هذه الأراضي العربية أقل من هذا العدد بكثير، إذ بين قيود السجلات ووقائع العدد الفعلي هناك هوة واسعة تدفع إلى طرح أسئلة جوهرية.
بالرغم من ذلك، فالوجود الفلسطيني يظل راسخاً، وهو ما تخشاه إسرائيل، حتى أنّ البروفيسور سيرجيو ديلا برغولا، يتكهن في "يسرائيل هيوم" بأنّ عدد اليهود والعرب الذين يعيشون بين النهر والبحر سيكون متساوياً خلال 40 عاماً. أضاف بعدما شارك في الكنيست، في اجتماع للجنة الفرعية للتخطيط القومي: "إنّ المجتمعين اليهودي والعربي ينموان بوتيرة سريعة، واليوم يبلغ عدد السكان بين النهر والبحر حوالي 13.5 مليون نسمة، ويتوقع أن يصل عددهم إلى 30 مليون نسمة في عام 2065".
القلق الإسرائيلي من أعداد الفلسطينيين وإصرارهم على العودة يتحول إلى ترسانات من الأسلحة الحديثة والحقد. لكنّ الوجود الفلسطيني المقيم وفي الشتات يظل عصياً على الاقتلاع، وللشتات الفلسطيني حكايات يجب أن تروى في كلّ موطن وبلد.
* باحث وأستاذ جامعي