"بارتشيس" في ليالي طنجة

04 يوليو 2016
جلسة لعب وتركيز (العربي الجديد)
+ الخط -
يصرّ أهالي طنجة على التمسّك بطقوسهم الرمضانيّة، حتى آخر يوم من الشهر الفضيل. بعد الإفطار وانتهاء التراويح، يستأنس هؤلاء بأصحابهم وعائلاتهم أو يخرجون للتنزه على شاطئ البحر أو تدخين النرجيلة ولعب الطاولة أو ورق الشدّة أو "البارتشيس". والأخيرة هي اللعبة السائدة التي تسيطر على أيدي وعقول الشباب والكهول والشيوخ في طنجة، فهم يمارسونها قبل الإفطار لتمرير الساعات المتبقية أو بعد انتهاء صلاة التراويح للتسلية والترفيه عن أنفسهم.

تنتشر لعبة "بارتشيس" في المقاهي الشعبية في المدينة القديمة، لكن نادراً ما نجدها في المقاهي أو المطاعم الحديثة. ثمّة فروقات كبيرة بين "طنجة الحديثة" التي تفقد شيئاً فشيئاً من أصالتها وتقاليدها، باستثناء بعض أزياء تقليدية يرتديها زبائن مقاهي الشيشة، وبين المدينة القديمة التي ما زال كهولها وشيوخها يحملون "السبسي" ويدخّنون الكيف فيه، بينما يستمتعون بطرب أندلسي أو يستمعون إلى معلق رياضي إسباني على مباريات "الليغا" أو يحملون في أيديهم حجر "النرد" ويلعبون.

يشارك في جلسة "البارتشيس" عادة حوالى أربعة وثمانية شخصاً، بحسب عدد الألواح. فالطاولة لها أربعة مداخل لأربعة لاعبين، ويتحكّم في اللعبة الحظُّ أولاً والذكاء ثانياً. يُذكر أنّ طاولات "البارتشيس" تُصنع محلياً وتساوي الواحدة منها تقريباً خمسة يورهات في السوق، وهي من أفضل التذكارات التي يمكن لزائر طنجة أن يحملها معه.

يعود تاريخ "البارتشيس" (parchís بالإسبانية) إلى القرن الرابع عشر، ويُقال إنّ أصولها هندية. ويُحكى أنّ اللعبة الأصلية كانت تمارَس داخل بلاط الإمبراطور المغولي جلال الدين أكبر في القرن الخامس عشر. وهو كان يتربّع على عرشه متوسطاً رقعة لعب عملاقة هي حديقة القصر، أمّا التنافس فكان بين أجمل فتيات الهند اللواتي يتحرّكنَ على رقعة اللعب بدلاً من الأقراص المستعملة حالياً. وقد ساهمت العلاقات التجارية بين أوروبا والهند في انتشار اللعبة عالمياً وتطويرها من خلال صيغ مختلفة. ومنذ عام 1999 تنظّم بطولة عالمية لـ "البارتشيس" في بلدة إيلغرادو الإسبانية. وتتميّز اللعبة بطابع شعبيّ في إسبانيا وشمال المغرب، بعدما حملها الاستعمار الإسباني إلى المنطقة.



وصول اللعبة إلى طنجة مرتبط حكماً بالإسبان الذين أدخلوها إلى المنطقة، وقد تبنّاها أهل تطوان نتيجة تأثير الثقافة الإسبانية على مناحي الحياة في مناطق شمال المغرب. في كتابه "مقالات ووثائق حول تاريخ المغرب المعاصر"، يشير الباحث عبد العزيز التمسماني إلى تأثير بفعل موجات الهجرة الإسبانية نحو المدينة أواخر القرن التاسع عشر.

في هذا السياق، يقول الباحث والمتخصص في تاريخ طنجة، بن عبدالصادق الريفي، إنّ "أهل طنجة يلعبون البارتشيس في المقاهي كنوع من التحدي. وفي ذلك إدمان كبير، خصوصاً في المقاهي الشعبية. ربما يقامرون من تحت الطاولة". يضيف لـ "العربي الجديد" أنّ "طرق لعبها تتعدّد، وثمّة اختلاف في طريقة اللعب بين أهل طنجة وأهل تطوان".

من جهته، يشير عبدالسلام الوهابي وهو من أهالي طنجة، إلى أنّ "أوّل مقهى شهد لعبة بارتشيس في طنجة كان يسمّى اغزّيل وكان ذلك ما بين عاميّ 1955 و1957. وهو يقع إلى جانب الأدراج الأميركية القريبة من السوق الداخلية، وكان أهل تطوان يقصدونه".
في عام 1960، كان انتشارها لا يزال محدوداً إلى أن عمّمت ما بين عامَي 1965 و1970 في مقاهي المدينة القديمة التي كانت أشبه بدكاكين صغيرة قبل أن توسَّع وترمم. وينقل أحد أهالي المنطقة الذي كان يعمل في بيت إسبانيّ في منطقة الجبل الكبير في طنجة، أنّه رأى رقعة "البارتشيس" هناك. كذلك رأى عمّالاً من الإسبان في أوقات استراحتهم، يجتمعون في باحة السكن ويلعبونها.

للعبة "البارتشيس" مكانتها بين الأهالي، على غرار ألعاب أخرى انتشرت في طنجة في ذلك الحين أيضاً، من قبيل الدومينو والداما وغيرهما. وإن كانت "البارتشيس" موسميّة وتزدهر خصوصاً في أيام رمضان ولياليها، لا سيما بعد الإفطار، على طاولات المقاهي، إلا أنّ كثيرين من أهالي طنجة يتذكّرون دائماً ضرب نردها. قد يمارسها بعضهم في أيّ يوم عادي، إلا أنّ "الروح" تختلف في شهر رمضان. تجدر الإشارة إلى أنّ الأمر لا يقتصر على المدينة فحسب، بل تأثّر أهالي القرى أيضاً بـ "البارتشيس"، ويؤكد بعضهم على أنّ أجواء لعبها في القرية أجمل مما هي في المدينة.