ليتل أرابيا.. أوطان ثانية في الولايات المتحدة

22 يونيو 2015
أصبحت مركزاً لانطلاق المسيرات المؤيدة للثورات العربيّة (Getty)
+ الخط -
في مدينة أناهيم، ثاني أكبر مدينة في مقاطعة اورانج بجنوب ولاية كاليفورنيا الأميركية، عدد من المعالم السياحية أبرزها "ديزني لاند" التي يقال إنها "المكان الأكثر سعادة على الأرض". على بعد أميال قليلة، معلم آخر قد لا يوازيه أهمية، لكنه يحتل مكانة كبيرة في قلوب الجالية العربية المقيمة في كاليفورنيا.

إنها "ليتل أرابيا" التي باتت تعرف بالوطن العربي الصغير، حيث ترفرف الأعلام العربية بين الأسواق ومكاتب الأطباء والمحامين، ومحلات الملابس الإسلامية وصالونات الحلاقة، والمطاعم والمقاهي التي يقصدها العرب الأميركيون من كل أنحاء كاليفورنيا والولايات المجاورة.

يقال إن المهاجرين العرب بدأوا في أوائل الثمانينيات يقصدون جنوب كاليفورنيا، ليستقر بعضهم في مدينة مجاورة لأناهيم تدعى غاردن غروف. لكن تمركز الشرق آسيويين، وتحديداً الفيتناميين في هذه المنطقة، ضيّق الخناق عليهم ولم يعطهم الحرية الكافية لممارسة أعمالهم التجارية. وهو ما دفعهم إلى الانتقال إلى أناهيم، حيث الإيجارات رخيصة وعقود السكن تجدّد بسهولة. هنا وضعوا اللبنة الأولى لمشاريعهم وأعمالهم.

يعدّ الحيّ العربي هنا الحاضنة الأولى للمهاجرين الجدد والطلاب واللاجئين العرب، لا سيما مع وجود عدد من المنظمات التي تساعدهم في إجراءات الهجرة والاستقرار وإيجاد فرص للعمل. وقد ساهم ذلك في تخفيف وطأة الغربة وصعوبة التأقلم مع الظروف الجديدة.

سامي خراقي من بين أوائل المهاجرين العرب الذين أسسوا أعمالاً لهم في منطقة أناهيم. هو فتح بقالة صغيرة لبيع الخضر والفواكه، باتت اليوم سوقاً يُعرف بـ"سوق الطيبات" وقد تسلّم إدارته ابنه رامي الذي كان عمره ثلاث سنوات حين هاجر والداه إلى الولايات المتحدة.

يخبر رامي خراقي أنه "عندما ترك والداي سورية في عام 1982، لم يكن هنا أي محل بقالة عربي ولا موزعون كثر للمنتجات الشرق أوسطية. قرّر والدي فتح بقالة صغيرة. ومع مرور الزمن طوّرناها ووسعناها لتصبح سوقاً شاملاً ليس فقط لهذه المنتجات، وإنما أيضا للمنتجات البلغارية والرومانية واللاتينية المختلفة والصينية".

وسوق الطيبات كأي سوق عربي تقليدي، يعثر فيه المتسوقون على منتجات لا تتوفر عادة في محلات البقالة الأميركية، كالخبز العربي الطازج والجبن والتمر والبرغل واللوز الأخضر وورق العنب واللحوم الحلال. ويوضح خراقي: "نحرص على بيع المنتجات الحلال فقط، ونتعامل مع مزارع المواشي والدجاج بشكل مباشر. ونتأكد باستمرار من رخص الذبح الحلال".

في الجهة المقابلة لسوق الطيبات، يقع مطعم "كريم" المعروف بفلافله الشهيرة، والذي تناولته صحف أميركية من بينها "لوس أنجلوس تايمز". وكانت نسرين العمري قد انتقلت مع زوجها من الناصرة إلى كاليفورنيا في منتصف الثمانينيات. لم تكن تعلم أن زيارة قصيرة ستتحول إلى مشوار عمر، إذ قررت وزوجها البقاء وفتح مطعم صغير في أناهيم. هو يعدّ من المطاعم العربية الأولى في المنطقة. وقبل ثلاث سنوات، رحل أبو كريم تاركاً لها مسؤولية المطعم.

تقول العمري: "كانت فكرة المطعم تدور دائماً في رأس زوجي. عائلته في الناصرة كانت تمتلك واحداً، وهو كان يهوى الطبخ. لذا فتحنا هذا المطعم، وأخذنا نتعلم من بعضنا بعضاً. وبعدما توفي أبو كريم، مررت بفترة عصيبة وأغلقت المطعم. لكنني قررت بعدها عدم الاستسلام، وإكمال المشوار الذي بدأناه معاً. وبمساعدة أبنائي نجح المطعم من جديد".

وتشير إلى أن سر نجاح مطعم كريم يعود إلى محافظته على نوعية الطعام الذي يقدمه، مضيفة أن "الناس يقصدوننا من كل مكان لتذوّق الفلافل. الأمر الذي جعلنا نفكر بتسويق خلطة فلافل كريم لدى محلات البقالة العربية. الفكرة لاقت نجاحاً، ونأمل تسويقها في المتاجر الأميركية مستقبلاً".

المطاعم والمقاهي العربية هنا لا تستقطب العرب وحدهم، بل كل من يعشق المطبخ العربي بنكهاته المتنوعة (الشامي والخليجي والمصري). وقد لعبت وسائط التواصل الاجتماعي دوراً مهماً في تعريف المجتمع الأميركي على المنطقة العربية وما توفّره.

ريتشارد، أميركي من عشاق "ليتل أرابيا"، كتب على صفحة موقع "يلب" الشهير عن تجربته في أحد المطاعم، "هذا المكان يمثل المطبخ اللبناني الأصيل. لقد طلبت شاورما اللحم مع الطبق النباتي الذي يشمل الحمص والبابا غنوج والتبولة والمخلل. لقد كان رائعاً. والخبز يُخبز أمامك.. دافئ وسهل المضغ. أحب هذا المكان وأجده من بين الأفضل، خصوصاً أنه يُعدّ الطعام الطازج كل صباح، وأجواؤه مستوحاة من منطقة الشرق الأوسط. ببساطة، إذا كنت تبحث عن المذاق اللبناني الحقيقي فلا تبتعد كثيراً".

وعلى الرغم من أن الحيّ العربي غير معترف به كمنطقة خاصة، فهو يعدّ واحداً من الأماكن التي تشجّع مدينة أناهيم سياحها على زيارته للاستمتاع بـ "الضيافة العربية". رشاد الدباغ ناشط في المجتمع العربي - الأميركي وأحد الفاعلين في مجال تسويق المنطقة العربية في أناهيم مثل "ليتل أرابيا ديستركت". يوضح أهمية ذلك، قائلاً: "نريد جذب السياح إلى المنطقة. ملايين منهم يقصدون أناهيم لزيارة ديزني لاند وغيرها من معالم المدينة. وينفقون كثيراً من الأموال في المطاعم والمقاهي. نريد أن نعرّفهم على المنطقة العربية التي توفّر أسواقها ومطاعمها ومحالها تجربة مختلفة". يضيف: "نهدف إلى دعم الأعمال العربية في المنطقة وتحسين الدخل بشكل عام. ونحن نعمل حالياً مع مجلس المدينة للاعتراف بشكل رسمي بليتل أرابيا كمنطقة لها خصوصيتها. فتكون مثل ليتل سايغون وليتل بنغلاديش وليتل كوريا".

وعلى الرغم من عدم إمكانية حصر الوجود العربي بجنوب كاليفورنيا في أناهيم وحدها، إذ إن العرب موزعون في المدن حولها، فإن لهذا الحي العربي الاقتصادي بالدرجة الأولى أهميته الاجتماعية والسياسية بالنسبة إلى عرب جنوب كاليفورنيا. ليتل أرابيا تتأثّر بكلّ ما تمرّ به المنطقة العربية من متغيرات، حتى أن الأسماء العربية حاضرة فيها بقوة. وليس غريباً أن نجد مخبز "باب الحارة" ومكتبة "جرير" ومطاعم "ميدان التحرير" و"شجرة الزيتون" و"مطبخ حلب"، و"زيت وزعتر" و"المحروسة".

إلى ذلك، أصبحت في خلال السنوات الأخيرة مركزاً لانطلاق المسيرات المؤيدة للثورات في مصر وليبيا وسورية، ومسرحاً للاحتفالات التي توالت مع توالي سقوط الزعماء العرب.

من جهة أخرى، لم يبدأ بناء المؤسسات والمراكز العربية في هذه المنطقة إلا متأخراً، إذ لم يكن في بال المهاجرين العرب الذين قصدوا الولايات المتحدة في الستينيات والسبعينيات سوى إيجاد عمل أو فتح مصلحة يكسبون منها رزقهم. لكن مع مرور السنين، أيقنوا أن وجودهم في هذا البلد سيطول، الأمر الذي دفعهم إلى التفكير بضرورة إيجاد المراكز والمؤسسات والمساجد والكنائس والمدارس العربية والتي بدأت تبرز في الثمانينيات.

كذلك بدأت الجالية العربية بتنظيم الفعاليات الاجتماعية المختلفة بهدف زيادة الترابط في ما بين أبنائها وفتح المجال أمامهم للتعارف، فأقامت المهرجانات السنوية والتجمعات في الحدائق العامة في المناسبات المختلفة مثل الأعياد الدينية المسيحية والإسلامية والأعياد الوطنية العربية، وكذلك الأميركية، وغيرها.

أبو جهاد مهاجر عربي قصد الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات، يرى أن نشاطات اجتماعية كهذه تساهم في التخفيف من حدة صراع الهوية الذي تعاني منه الأجيال الجديدة، التي يقول إنها تشعر بعدم انخراطها التام في كلا المجتمعين العربي والأميركي. ويوضح: "صراع الهوية موجود. ويكون أعمق حين يكون كلا الوالدين مشغولين بأعمالهما ووظائفهما، ما يعني أن أولادهما تربوا في المدارس الأميركية، وعندما يصلون إلى سن المراهقة يتنبّه الوالدان إلى ضرورة تعليمهم اللغة العربية والعادات والتقاليد. وهنا يحصل الصراع". يضيف: "الوضع في عائلتنا مختلف. زوجتي وأنا أسسنا أطفالنا منذ البداية على الثقافة العربية والإسلامية. كذلك سجلناهم في المدارس الأسبوعية التابعة للمسجد. وحرصنا على أخذهم في خلال الإجازات السنوية إلى مسقط رأسنا".

إقرا أيضاً: ماذا يعني أن تكون مسلماً في أميركا