يرى المركز الدنماركي لحقوق الإنسان ولجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وجوب أن تلغي الدنمارك تجريم المشرّدين وتعمد إلى إيجاد مساكن لهم بدلاً من إحالتهم إلى المحاكم. وهو الأمر نفسه الذي تشير إليه منظمة "ساند" (الحقيقة) التي تنتقد قانون منع التسوّل الصادر في عام 2017 والذي استهدف الروما أو غجر رومانيا في كوبنهاغن، قبل أن يطاول الدنماركيين أنفسهم.
وتقضي قوانين الدنمارك المعدّلة في عام 2017 بزجّ كلّ من يتسوّل بشوارع البلاد في السجن، لمدّة 14 يوماً. وأنزلت هذه العقوبة بحقّ عشرات من بين آلاف من المشرّدين الدنماركيين، على الرغم من أنّ القانون الذي تبنّته حكومة يمين الوسط بضغط من يمين متشدّد في حزب الشعب الدنماركي جاء ليستهدف المتسوّلين الأجانب، بعد تزايد مخيّمات مشرّدي الروما الذين راحوا يتسوّلون في المدن الدنماركية في ذلك العام، الأمر الذي عدّه حينها المركز الدنماركي لحقوق الإنسان "مخالفة للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المعتمد من قبل الأمم المتحدة)".
ومع تفاقم أزمة المشردين في ظلّ سوء الأحوال الجوية المسجّلة في شهر فبراير/ شباط الجاري، لا سيّما أنّ الدنمارك تختبر تقلبات مناخية غير مسبوقة مع تكرّر العواصف الشديدة والأمطار لأيّام متواصلة، عاد المركز الدنماركي لحقوق الإنسان إلى "المطالبة بإلغاء تجريم المشرّدين الدنماركيين الذين يتسوّلون أمام المتاجر للحصول على كوب قهوة". بالنسبة إلى القائمين عليها، فإنّه "بدلاً من معاقبتهم من خلال سجنهم 14 يوماً، هم الذين يعانون أصلاً، لا بدّ من تأمين سكن لهم ليتمكّنوا من عيش حياة عادية بعيداً عن الشارع".
يُذكر أنّ المتسوّلين يتمركزون أمام محطات القطارات وكذلك المتاجر وممرّات المشاة، وبمجرّد إلقاء القبض على واحد منهم "بالجرم" يحوّل تلقائياً إلى السجن، الأمر الذي يعدّه المركز الدنماركي "تجريماً للتشرّد". وقد رصد المركز مخالفات من قبل الحكومات المتعاقبة في حقّ نحو خمسة آلاف مشرّد في شوارع البلد، فيما يؤكد القائمون عليه أنّه "في حال أردنا أن نكون روّاداً في مجال العدالة الاجتماعية ونتفاخر بذلك أمام دول العالم فإنّه علينا الارتقاء إلى مستوى التزامنا الأخلاقي وحماية المواطنين الأكثر ضعفاً في المجتمع".
والقانون المطبّق منذ عام 2017، بعد أشهر من نقاشات حول "مخيّمات عشوائية أقامها الروما في كوبنهاغن لممارسة التسوّل"، وفقاً لما ارتكز عليه اليمين واليمين المتشدّد لتمريره، أدّى إلى سجن عشرات من الجنسية الدنماركية ومن جنسيات غير دنماركية بحجّة مكافحة التسوّل. وانتقل "تسوّل الأجانب"، بحسب التسمية التي انتشرت لتبرير التجريم قبل أكثر من عامَين، إلى دول الجوار، خصوصاً السويد والنرويج، مع العلم أنّ الأخيرة صارت وجهة للروما المتسوّلين. ولا تجرّم قوانين البلدَين الاسكندنافيَّين التسوّل كما تفعل الدنمارك، وتقدّر بيانات استوكهولم وجود نحو 700 مواطن أوروبي متسوّل، فيما العدد نفسه تشير إليه أوسلو، بحسب ما نقلت صحيفة "كريستلي داوبلاديت" الدنماركية عن مصادر في منظمات تعنى بشؤون المشرّدين في البلدَين. وهذان الرقمان يفوقان ما كانت تحصيه العاصمة الدنماركية عند فرض العقوبة، أي ما بين 300 و400 متسوّل من الروما.
ويستغلّ متسوّلو الروما فصل الصيف للانتقال إلى دول الشمال، فينتشرون في شوارع المدن الكبيرة ويقيمون في ما يشبه مخيّمات في الحدائق والغابات، من دون أيّ خدمات ومرافق. ويبقى قسم من هؤلاء في فترة الشتاء. وتتمّ عملية الانتقال من البلدان الأصلية عبر الحافلات بشكل شبه يومي إلى كوبنهاغن ومنها إلى بقية دول اسكندينافيا. وقد صعّبت الحكومة الدنماركية السابقة مهمّة التسول بعدما اعتقلت عدداً من هؤلاء وأصدرت أحكام إبعاد في حقّ بعضهم. فيُمنع دخول من اعتقل لأسبوعَين بسبب تسوّله، لمدّة عامَين، الأمر الذي يضطر البعض إلى الانتقال عبر البواخر إلى السويد مباشرة ومنها إلى النرويج بدلاً من المرور في الدنمارك.
وكان لقانون حظر التسوّل، لا سيّما ما يتضمّنه بخضوص "منع الإقامة في مخيّمات ومناطق محددة"، أثره السلبي على الدنماركيين المشرّدين. وتتدخّل الشرطة عادة بناءً على اتصال مواطنين يعبّرون عن "امتعاض" من وجود مجموعة مشرّدة في مكان معين. والشرطة تستطيع وفقاً لقانون 2017 فرض "منع وجود لمدّة عامَين" على المشرّدين الذين يجرّون في بعض الأحيان عربات تسوّق تحمل كلّ ما يملكون من ملابس وأغطية للنوم في الشارع. وبعضهم، وفقا لما تذكره لـ"العربي الجديد" المتطوّعة في منظمة "ساند" لمساعدة المشرّدين، روت أندرسن، فإنّ هؤلاء هم "الأضعف اجتماعياً ويعاني بعضهم من مشكلات نفسية واجتماعية واقتصادية تدفعهم إلى العيش بهذه الطريقة". من جهتها، تقول دورتا، وهي مشرّدة دنماركية، لـ"العربي الجديد"، إنّ "مشرّدي الدنمارك يشكون من الأحكام المسبقة"، شارحة أنّ "الناس ينظرون إليك كأنّك عالة عليهم، فيما نحن لا نقوم بشيء ضدّ الناس والمجتمع". ودورتا في الخمسينيات من عمرها وتعيش بلا مأوى منذ خمسة أعوام، بعدما عانت من مشكلات نفسية واجتماعية جعلتها مدمنة مخدّرات.
وفي الأسبوع الماضي، طالب المركز الدنماركي لحقوق الإنسان من جديد حكومة يسار الوسط بالتراجع عن قانون معاقبة المتسوّلين "لأنّه يصيب في الأساس الأكثر ضعفاً في المجتمع". وكان وزير العدل الدنماركي نيك هيكروب قد وعد في سبتمبر/ أيلول الماضي بتغيير قانون "إقامة المشرّدين في الأماكن العامة"، لكنّ شيئاً لم يتبدّل منذ ذلك الحين.
يُذكر أنّ الدنمارك كانت قد شهدت سجالاً بعدما وصلت قضية رجلَين دنماركيَّين في الخمسينيات من عمرهما، بلا مأوى في كوبنهاغن، إلى المحكمة بتهمة "إنشاء مخيّم إقامة غير شرعي". لكنّ المحكمة برّأتهما من اتهام الشرطة لهما بإقامة مخيّم وخرق أحدهما حظر عدم قصد إحدى مناطق العاصمة لثلاثة أشهر، تحديداً بالقرب من محطة نوربرو الشهيرة حيث كان الروما يقيمون مخيّمهم. ورأى القاضي المعنيّ أنّ الرجلَين اللذَين "ناما على ألواح من الكرتون لم يحوّلا المكان إلى مخيّم ولم يتناولا فيه الطعام، بل كانا في كلّ صباح ينظّفان خلفهما قبل أن يمضيا في سبيلهما". وهو ما فتح الباب أمام مطالب تغيير القانون الذي يراه حقوقيون "ظالماً ومجحفاً في حقّ مواطنين يعانون أصلاً من مشكلات"، بحسب ما توضح أندرسن.
وكان تقرير للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قد انتقد أوضاع مشرّدي الدنمارك، بعد جولة على الأرض وبحث في أوضاعهم في خريف عام 2019، فيما أبدت اللجنة "قلقاً من تجريم المشرّدين والمتسوّلين". وطالبت اللجنة في تقريرها الدنمارك بالالتزام بما وقّعت عليه في مجال الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. وانضمّ المركز الدنماركي لحقوق الإنسان في خلال نهاية الأسبوع الماضي إلى دعوة الحكومة الدنماركية بإلغاء قانون 2017 المجرّم لنوم المشرّدين في الفضاء العام، أو الحكم على الأشخاص الذين يتلقّون بضعة قروش من المارة لشراء قهوة أو وجبة طعام. بالنسبة إلى المركز وكذلك لجنة الأمم المتحدة فإنّ "واجب الحكومة الدنماركية ليس معاقبة المشرّدين إنّما إيجاد مساكن لهم".