للحرب في أيّ بقعة من العالم آثارها السلبية التي تطاول كلّ فئات المجتمع، وإن تفاوتت بين واحدة وأخرى نظراً إلى عوامل مختلفة. ولعلّ الأطفال هم من أكثر الفئات تضرراً في هذا السياق، وصغار ليبيا من بينهم.
تظهر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة واضحة على عدد كبير من الأطفال الليبيين، بحسب ما يؤكده الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية، الدكتور فتح الله زروق. بالنسبة إليه لم يصل الأمر في ليبيا إلى مستوى الظاهرة التي تستوجب إعلان حالة طوارئ، إلا أنّه لا يقلل من الخطر لا سيّما مع استمرار الحرب في البلاد. ويتحدّث زروق لـ"العربي الجديد" عن "العنف الذي يتعرّض له الأطفال في البلدان حيث النزاعات المسلحة، فيؤثّر على نفسيّتهم"، شارحاً أنّه "إلى جانب المتداول في داخل الأسرة وفي الشارع والمدرسة عن عمليات الخطف والجرائم المختلفة منها القتل، فإنّ ثمّة أطفالاً تعرّضوا للعنف المباشر عندما شهدوا سقوط قذائف على الأحياء التي يسكنونها أو عندما نزحوا مع أسرهم هرباً من الاقتتال". يضيف أنّ "حالات بالفعل أشرفت عليها يعاني فيها أطفال من حالات نوبة وانهيار يصحبه الارتعاش والبكاء أثناء سماعهم أي صوت عال يشبه الانفجار أو الرصاص"، لافتاً إلى أنها تبعات لما بعد الصدمة التي تؤثّر بشكل كبير في مسار حياتهم الطبيعية". ويتابع زروق أنّ "الكوابيس والأحلام المزعجة قد تتكرر على خلفية العنف الذي يتعرّض له الطفل من جرّاء الحرب، من قبيل صوت الطائرات أو صفارات إنذار السيارات. وكل ذلك يخلّف حالات من الاكتئاب والخوف وردود فعل لاإرادية لدى الأطفال عند سماعها". ويؤكد أنّ "ثمّة حالات قد تدفع في اتجاه انعزال الطفل لدرجة أنّه يترك المدرسة بسبب تخوّفه من المحيط، في حال لم تستوعب الأسرة حالته وتشعره بالأمان، خصوصاً إذا كانت الأسرة نازحة وتعاني ظروفاً قاسية".
ويشير زروق إلى "طفل يُدعى هشام تعرّضت مدرسته في العاصمة الليبية طرابلس إلى قصف في يوليو/ تموز الماضي، ما اضطر أسرته التي تقطن في جوار المدرسة إلى نقله إلى أخرى، في إطار علاجه من نوبات خوف وذعر حادة أصابته في أثناء مشاهدته القصف، علماً أنّها ما زالت تتكرر بالإضافة إلى التبوّل اللاإرادي". ويكمل أنّ "والدَي هشام ما زالا يتخوفان من إمكانية تعرّض مدرسته الجديدة للقصف، وهو ما يجعل والده يرافقه إلى غرفة الصفّ منذ بدء العام الدراسي وحتى اليوم".
من جهتها، تصنّف الباحثة الاجتماعية حسنية الشيخ أطفال ليبيا ما بعد عام 2013 بـ"أطفال الحرب"، لافتة إلى "مخاطر سوف تتهدد من يعاني من جرّاء صدمات الحرب على مدى سنوات". تضيف الشيخ لـ"العربي الجديد" أنّ "ثمّة سلوكيات رُصدت في المدارس لدى بعض الأطفال، هي من دون شك أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، من قبيل جنوح تلاميذ وميلهم إلى تحطيم كلّ شيء والاعتداء على زملائهم". لكنّ الأشدّ خطورة بحسب الشيخ هو "استجابة أطفال الحرب في المرحلة الإعدادية لتعاطي المخدرات. وقد ضبطت الشرطة بالفعل معدّات لها علاقة بتعاطي المخدرات بين مستلزمات مدرسية تعود إلى بعض تلاميذ هذه المرحلة".
وفي سياق متصل، تقول الشيخ: "لا شكّ لديّ في أنّ نجاح مجموعات مسلحة مليشياوية في اجتذاب الأطفال في سنّ المراهقة للانخراط في صفوفها هو من تأثير الحرب على نفسيّة هؤلاء"، لافتة إلى أنّ "المعارك التي يخوضها الأطفال بألعاب على شكل أسلحة في الأزقة والشوارع صارت ظاهرة معروفة في المجتمع". وتتابع أنّه "في إطار البحث عن أسباب ميل فتى في الرابعة عشرة من عمره إلى الألعاب الحربية، تبيّن أنّه يريد الانتقام لمقتل أخيه عندما يكبر"، موضحة أنّ "شقيقه الذي يكبره بعام واحد توفي برصاص عشوائي قبل أعوام".
تجدر الإشارة إلى أنّ أوضاع الأطفال في عشرين بلداً حول العالم في حالة نزاعات مسلحة، من بينها ليبيا، في عام 2018، رُصدت خلال تقرير أممي استعرض صوراً مفزعة لقتلى وجرحى من الأطفال، علماً أنّ التقرير سجّل 24 ألف انتهاك جسيم. وتعلّق الشيخ على التقرير قائلة: "لا شكّ في أنّ الوفيات والتشوّهات التي تخلفها الإصابات أمر واقع، لكن ما نطالب به هو ضرورة توفير الدعم النفسي لأطفال الأسر النازحة". وتشدّد على "ضرورة توفير ظروف مناسبة في أماكن النزوح، بالتعاون مع الأسرة المطالبة بتوفير قدر من التطمينات لأطفالها حتى يشعروا بالأمان". وتلفت إلى أنّ "نتائج الامتحانات للعام الدراسي الماضي تؤكد تأثير ظروف النزوح على نفسيّة الأطفال في المراحل الإعدادية الأولى، مع تراجع نسب النجاح". وتكمل الشيخ أنّ "حالات عدّة ظهرت في ليبيا ومرّت من دون دراسة أو من دون التوقّف عندها، منها الانتحار بين الأطفال في سنّ المراهقة في خلال عامَي 2017 و2018"، مرجّحة أن تكون "ظروف الحرب القاسية وتبعاتها النفسيّة على هذه الشريحة من الأطفال وراء كثير منها".