معهد أوروبا... نخب شابة لتعزيز الاتحاد وبنائه

05 أكتوبر 2017
في إحدى المحاضرات (معهد أوروبا)
+ الخط -
معهد أوروبا الذي يتّخذ من مدينة بروج البلجيكية مقراً له، هدفه تكوين موظفي المؤسسات الأوروبية العاملة في بروكسل ومن مختلف مدن الدول أعضاء الاتحاد. للتعرّف عليه عن كثب، كانت زيارة له أجرتها "العربي الجديد"

في مدينة بروج الجميلة والهادئة التي يُطلَق عليها اسم "بندقية الشمال"، نظراً إلى التشابه بينها وبين المدينة الإيطالية، والتي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى، أنشئت في عام 1949 وبعيداً عن الأنظار، مؤسسة تابعة للاتحاد الأوروبي هي "معهد أوروبا". والفكرة من وحي سلفادور دي مادارياغا، دبلوماسي إسباني معادٍ للديكتاتور الإسباني فرانكو، وذلك بعد مؤتمر لاهاي (1948) الذي وضع الأسس الأولى للبناء الأوروبي.

والمعهد مؤسسة تربوية عليا لتكوين النخبة الأوروبية، لكنّه غير معروف تقريباً في دول أوروبية عدّة، باستثناء بعض المتخصصين في الشؤون الأوروبية في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. وفي بروكسل، يكاد يكون من المستحيل عبور ساحة شومان، حيث مقرّ المفوضية الأوروبية والمجلس الوزاري الأوروبي، أو ساحة لوكسمبورغ حيث مقرّ البرلمان الأوروبي، من دون الالتقاء بطالب سابق في هذا المعهد. الدراسة في معهد أوروبا هي أفضل بطاقة تعريف في العاصمة الأوروبية.

في مبنى عاديّ، يجتمع نحو 300 طالب من كل أنحاء أوروبا، اختارتهم وزارات الخارجية في بلادهم بعد تقديمهم ملفاتهم، للحصول على تكوين خاص في تسيير شؤون المؤسسات الأوروبية والسهر على إنجاح البناء الأوروبي. يشرح مدير المعهد، يورغ مونار، لـ "العربي الجديد" أنّ الطلاب "يتعلمون خصوصاً معالجة كلّ الملفات بطريقة مباشرة، كما هي الحال بالنسبة إلى عدد كبير من موظفي المؤسسات الأوروبية". يضيف أنّ "التكوين كلّه يتمّ خلال عشرة أشهر، لغرس ما يسمى بروح بروج أو روح بروكسل في هؤلاء الشباب، أي العمل من أجل الوحدة مع احترام التنوّع".


ولتحقيق هذا الهدف، يأتي عمل المؤسسة في إطار فريد إلى حدّ ما، مستوحى من المعاهد البريطانية. فيعيش الطلاب في سبعة مساكن منتشرة في أنحاء المدينة، وهم من جنسيات أوروبية مختلفة إلى جانب شباب آخرين من خارج الاتحاد الأوروبي. يعيش هؤلاء مع بعضهم بعضاً ويجتمعون حول مائدة الفطور فيما يتحدثون بأربع لغات أو خمس أو ست. والنتيجة علاقات اجتماعية متينة. ويشير هنا مونار إلى أنّه "ليس بأمر مهمّ أن يشتكي الألمان في البداية من ضجيج الإسبان". يُذكر أنّ بدل التسجيل في المعهد مرتفع، قيمته 24 ألف يورو، لذا يعمد المعهد إلى التكفّل بكل شؤون الطلاب الحياتية، من قبيل الغسيل ووجبات الطعام.

يخبر جان سابستيان لوفيبر، وهو واحد من هؤلاء الطلاب، "نعيش معاً 24 ساعة من أصل 24، بالتالي لا بدّ من أن تنشأ بيننا علاقات. والمعهد يشجّع على ذلك". يضيف لـ "العربي الجديد": "تعلّمت النشيد الوطني الخاص بكل واحدة من دول الاتحاد. وبمجرّد السؤال عن ملف معيّن، أطلب المساعدة من زملائي الإسبان أو الإيطاليين أو غيرهم". وهو الأمر الذي يساهم في تشكّل شبكات من الأصدقاء والزملاء تستمرّ إلى ما بعد فترة الدراسة.



ويمنح "معهد أوروبا" تكويناً أكاديمياً رائداً بهدف التحضير للعمل اليومي في مؤسسات الاتحاد، على الرغم من منافسة جهات أخرى تُعِدّ دورات تكوينية في أوروبا في الوقت الحالي. يُذكر أنّ أساتذة المعهد جميعهم تقريباً من العاملين في مؤسسات أوروبية، من أمثال جوناثان فول أحد المتحدثين السابقين باسم المفوضية الأوروبية، وهيرمان فان رومبوي الرئيس السابق للمجلس الأوروبي الذي يدير ورشة "القيادة في الاتحاد الأوروبي". وفي السياق، يستقبل المعهد مرّات عدّة في العام، شخصيات مرموقة. جميع رؤساء دول الاتحاد زاروا معهد أوروبا، من بينهم الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران ورئيس الحكومة الإسبانية ماريانو راخوي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، من دون أن ننسى الرئيس الصيني شي جين بينغ.

ونظراً إلى تركيزه على التكوين العملي، فإنّ المعهد يتكيّف مع المستجدات الأوروبية. ففي حين يعيش البناء الأوروبي أسوأ أزمة في تاريخه، نظّم المعهد ورشة حول الأفكار الشعوبية والمنتقدة للبناء الأوروبي، بالإضافة إلى ورشة خاصة حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. تلفت الطالبة مونيكا موسيو إلى أنّ "البعض منّا لا يتردد في طلب مزيد من التكوين حول ملفات شائكة، من قبيل الهجرة التي تمثّل مصدر قلق كبير للغاية".

في سياق متصل، تقول موسيو لـ "العربي الجديد": "نحن من الطبقة الوسطى، لسنا أبناء دبلوماسيين"، مشيرة إلى نظام المنح الدراسية الذي يقوم على معايير اجتماعية. تضيف: "في عائلتي، لا يعرف البعض حتى عدد الدول الأعضاء في الاتحاد".

من جهتها، تقول الطالبة آن صوفي لـ "العربي الجديد" إنّ "الطلاب لا يترددون في الدفاع عن بروكسل واتهام وسائل الإعلام والدول الأعضاء بالتقصير في ما يخصّ التحدّث كفاية عن أوروبا بطريقة إيجابية". لكنّ هؤلاء الطلاب يعترفون بأنّ الملفات المتعلقة بالاتحاد الأوروبي معقدة جداً.

إلى ذلك، يتمنى الطلاب، جميعهم تقريباً، العمل في العاصمة الأوروبية بروكسل، بحسب ما يقول الطالب ريك، "يحلم الجميع بالعمل في المفوضية الأوروبية". يضيف لـ "العربي الجديد" أنّ "الأزمات المتكررة التي عرفها الاتحاد قللت من عدد الوظائف في مؤسساته". وبحسب استطلاع أعدّته أخيراً "جمعية الطلاب السابقين في معهد أوروبا" التي تضمّ أكثر من 12 ألفاً و500 شخص، 13 في المائة منهم فقط يعملون في المفوضية الأوروبية. فكثر هم الخرّيجون الذي يتوجّهون للعمل في مؤسسات أخرى، من قبيل البرلمان الأوروبي والمجلس الوزاري الأوروبي أو في مجموعات ضغط وفي مكاتب المحاماة في بروكسل.

يوليا، على سبيل المثال، تخرّجت قبل عامَين من المعهد واختارت البقاء فيه والعمل كمدرّسة مساعدة، بدلاً من العودة إلى بلدها الأصلي بيلاروسيا. تقول لـ "العربي الجديد" إنّ "ما نتعلمه هنا هو كيفية إدارة العلاقات بذكاء، ليس فقط عندما يسير كلّ شيء على ما يرام، وإنّما في أوقات الشدّة وتحت الضغط كذلك".

والتعابير من قبيل "الثقافات" و"التواصل" و"التنوّع" و"الوحدة" مفردات أساسيّة لصيقة بهذه المؤسسة الفريدة من نوعها التي تسعى إلى أن تكون الفضاء الذي تُدرس فيه تجربة البناء الأوروبي بكلّ جوانبها الإيجابية كما السلبية. وذلك للمساهمة في تكوين نخبة قادرة على تصحيح البناء وتعزيزه من أجل مستقبل جميع الأوروبيين.
المساهمون