يوميات الرقة... حصار وتشرّد واحتجاز وموت

27 اغسطس 2017
ينتظرون حصّتهم الغذائية في عين عيسى (دليل سليماني/فرانس برس)
+ الخط -

تحاول "العربي الجديد" رصد معاناة أهالي الرقّة، سواء هؤلاء المحاصرين في الأحياء حيث يسيطر تنظيم "داعش" داخل المدينة أو على طرقات النزوح إلى خارجها أو في "مخيّمات الموت" حيث استقرّ البعض.

أكثر من ثمانين يوماً على معركة الرقّة وحال المدنيّين هناك تزداد سوءاً، وسط قصف التحالف الدولي والحصار والنقص في الأغذية والعلاج والرعاية الصحية. تُضاف إلى ذلك معوّقات النزوح والتشرّد ومخيّمات النازحين ذات الصيت السيئ التي تؤمّنها قوات سورية الديمقراطية (قسد).

في السادس من يونيو/ حزيران الماضي، بدأت معركة الرقّة بقيادة قوات سورية الديمقراطية التي تمثّل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري، وبدعم جويّ مباشر من طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. الكلفة تأتي كبيرة جداً بالنسبة إلى المدنيين، سواء بالأرواح التي سقطت أو بالمعاناة التي يعيشها الأحياء من بينهم.

في انتظار الموت

تتضارب المعلومات حول العدد الدقيق للمدنيين المحاصرين داخل المدينة وكذلك حول أوضاع هؤلاء ومعاناتهم هناك من جرّاء المعارك أو الممارسات التي يرتكبها تنظيم "داعش" بحقّهم. وفي اتصال مع "العربي الجديد"، يقول مجاهد أبو حسين (اسم مستعار)، وهو ناشط يعمل في مجال الإغاثة، إنّ "ما لا يقلّ عن 25 ألف شخص ما زالوا داخل المدينة وهم يعانون من ظروفٍ قاسية". يضيف أنّه حصل على "معلومات مؤكّدة تفيد بوجود عدد كبير من الجرحى والمصابين بأمراض مزمنة في حاجة ماسّة إلى العلاج، من دون أنّ يتلقوا أيّ رعاية صحية داخل المدينة. فكلّ مشافي المدينة الرسمية والخاصة متوقّفة تماماً عن العمل، والطبابة محصورة في المشافي الميدانية التي أستحدثها التنظيم في أقبية المنازل بغرض علاج مصابيه الذين يقاتلون على الجبهات". ويلفت إلى أنّ "المدنيين مُنعوا من الحصول على العناية الطبية في تلك المراكز، وكثيرون منهم لم يحصلوا على أي من الأدوية الضرورية لبقائهم على قيد الحياة". ويصف أبو حسين حال المدنيين داخل الرقّة قائلاً إنّهم "محاصرون في انتظار الموت، إلّا في حال فتح خط إنساني لإخراجهم"، إذ إنّ "مصير الجرحى والحالات الطارئة هو الموت في حال البقاء وعدم الخروج العاجل".

لا تتوقّف المشكلة عند الرعاية الصحية فحسب، ويشير أبو حسين إلى "نقص حاد في المياه راح يعاني منه المدنيون بعد أيام من انطلاق المعركة. وهو الأمر الذي أسفر عن انتشار الأمراض بصورة أكبر، في حين يتعمّد التنظيم احتكار السلع الغذائية والضرورية لتوفيرها لمقاتليه وعائلاتهم".

دروع بشرية

يقول أبو حسين إنّ "المشكلة الرئيسية داخل الرقّة تتمثّل في أنّ التنظيم يستخدم المدنيين دروعاً بشرية، ويمنعهم من الخروج إلى مناطق آمنة. ومن المتوقّع أن يستخدمهم كورقة رابحة في معركته، لأنّه يحاول استثمار الأزمة الإنسانية وحاجة المدنيين إلى الأغذية والأدوية والمياه ووقف القصف، حتى يتمكّن من تحقيق نصر ما في المعركة". ويلفت إلى أنّ "التحالف الدولي وقوات سورية الديمقراطية قاما بما يريده التنظيم تماماً وهو مفاقمة معاناة المدنيين لتحقيق الغاية التي يريدها"، شارحاً أنّ التنظيم "تعمّد عدم علاج المدنيين وقطع عنهم ما يتوفّر من مياه وأغذية ليُفاقم تلك الأزمة".

على الرغم من هذه المعاناة ومن الدعوات التي وجّهتها الأمم المتحدة لهدنة إنسانية تسمح بخروج نحو 20 ألف محاصر من الرقّة، فإنّ التنظيم وقوات سورية الديمقراطية لم يستجيبا حتّى الساعة لتلك الدعوات. وكانت منظمة العفو الدولية قد نشرت تقريراً حذّرت فيه من خطورة الأوضاع التي يواجهها المدنيون العالقون في الرقّة، إذ رأت أنّهم يعيشون حالة من التيه وسط نيران المعركة بين التنظيم وقوات سورية الديمقراطية وجيش النظام والتحالف الدولي. أضافت المنظمة أنّ "تعمّد تنظيم الدولة استخدام المدنيين دروعاً بشرية لا يبرّر انتهاك الأطراف الأخرى للقوانين الدولية"، مطالبة "قوات سورية الديمقراطية والولايات المتحدة بحماية المدنيين وفتح طرقات آمنة وتجنّب الهجمات غير المتناسبة والقصف العشوائي".



الخروج من الجحيم

"من يريد الخروج، عليه أن يعيش أجواء المعركة أوّلاً"، بحسب ما يقول عبد الله، وهو شاب ثلاثيني نجح في الفرار. يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "ثمّة طرق عدّة للخروج وكلّها من دون إرادة التنظيم، إذ هو يمنع المدنيين من ذلك. وأولى تلك الطرق وأفضلها هو أن ينسحب التنظيم من الشارع أو الزقاق من دون قتال، وهنا في إمكانك الخروج مباشرة وتسليم نفسك بعدما توحي وتدلّ على أنّك مدني ولا علاقة لك بالتنظيم. وفي حين نجح البعض في ذلك، وقع مدنيون كثر ضحية عدم تصديق قوات سورية الديمقراطية بأنّهم مدنيون". أمّا الطريقة الثانية، بحسب عبد الله، فهي "استغلال أيّ ثغرة تتوقّف خلالها الاشتباكات للتمكّن من الخروج من المنطقة التي يُسيطر عليها التنظيم. لكنّ من الممكن أن تتجدّد الاشتباكات في أيّ لحظة ويتحوّل الهارب إلى ضحية، أو من الممكن أن تشعر الجهة التي قصدها لتسليم نفسه بأنّه عنصر مفخّخ في تنظيم داعش فتقتله بالتالي من دون تردّد".

وعن طريقة خروجه من الرقّة، يخبر عبد الله أنّه بقي مع شقيقته في المنزل ولم يخرج منه حتّى بعد هدوء المعارك في الشارع حيث يعيش. لكنّ قوة من "قسد" داهمت المنزل، فأخبر عناصرها بأنّه مدني فعمدوا إلى إخراجه بعد تفتيش بيتهم بمنتهى الدقّة. ويوضح عبد الله أنّه "بعد الخروج من المدينة، قد يضطر الهارب إلى المشي لساعات طويلة حتّى يتمكّن من الوصول إلى منطقة تضمّ مخيمات لقوات قسد منتشرة بكثافة في محيط مدينة الرقّة من معظم جهاتها. ثمّ يخبرهم بأنّه مدني، فيُفتَّش مجدّداً بطريقة دقيقة قبل نقله إلى مخيمات للنازحين". ويشير إلى أنّ "مدنيين كثيرين قُتلوا خلال محاولتهم الهروب من الرقّة، لأنّ التنظيم يمنع خروج المدنيين بطريقة طوعية"، داعياً إلى "فتح شارع واحد على أقل تقدير بتوافق الأطراف لإخراج من بقي عالقاً".

مخيّمات الموت

في السياق، يقول أبو حسين إنّ "الخروج من الرقّة سالماً لا يعني حتماً أنّك سوف تكون في مكان آمن"، مشيراً إلى أنّه شهد على "ممارسات قامت خلالها قسد باحتجاز عائلات في مخيمات مؤقّتة لأيام قبل إعادة فرزهم وتوزيعهم على مخيّماتها الرئيسية، وبذلك يتفرّق أفراد العائلات في المخيّمات". يضيف أنّه "خلال النزوح بعد اشتداد المعارك داخل المدينة، فإنّ النازحين يصلون على دفعات".

تجدر الإشارة إلى أنّ قوات سورية الديمقراطية أنشأت ثمانية مخيّمات للنازحين في المنطقة الشمالية الشرقية، ومن بينها مخيّم "الكرامة" في الرقّة، الذي يأوي 30 ألف نازح من ريفَي الرقّة ودير الزور، ومخيّم "عين عيسى" مع نحو ثمانية آلاف نازح، ومخيّم "السد" مع نحو ستّة آلاف نازح، ومخيّم "المبروكة" مع ثلاثة آلاف نازح، ومخيّم "رجم الصليبي" مع نحو 10 آلاف نازح، ومخيّم "الهول" مع نحو 10 آلاف نازح. لكنّ العيش في تلك المخيّمات لم يكن أفضل أو أهون من العيش تحت سيطرة التنظيم وغارات طائرات التحالف، إذ إنّ المدنيين الذين وصلوا إلى هذه المخيّمات عُوملوا بطريقة سيئة وقد افتقروا إلى أبسط متطلّبات الحياة.

أبو يحيى، ربّ أسرة سوري، كان محظوظاً، إذ اتخذ قراره بالخروج من الرقّة قبل بدء معركة "قسد"، ولم يغامر بالبقاء هناك مع عائلته المؤلفة من خمسة أفراد. اليوم يعيش إلى جانب أكثر من ثلاثة آلاف نازح في مخيّم "المبروكة" في الحسكة، معظمهم من الرقّة، في حين أنّ جزءاً آخر منهم هرب من محافظة دير الزور. يقول أبو يحيى لـ"العربي الجديد"، إنّ "منظمات تابعة للأمم المتحدة تقدّم مساعدات للمدنيين وتسلّمها إلى إدارة المخيّمات التي تُشرف عليها قسد التي توزّعها على هؤلاء". لكنّه يلفت إلى أنّ "المواد الغذائية غير كافية ولا تتوفّر أيّ أدوات أو مستحضرات للتنظيف، الأمر الذي أدّى إلى انتشار الأمراض بسبب تلاصق الخيم بعضها ببعض من دون مراعاة للمعايير الصحية". يضيف أنّ "المخيّم لا يحتوي على مياه صالحة للشرب ولا على دورات مياه أو أماكن استحمام صالحة للاستخدام. نحن نعيش في صحراء وفوق رؤوسنا أقمشة يسمّونها خيماً".

ويتحدّث أبو يحيى كذلك عن "معاملة سيئة يلقاها المدنيون في تلك المخيّمات، إذ إنّ أيّ اعتراض أو مطالبة بأبسط الحقوق التي يحتاجها الإنسان، سوف يجعلانك أمام شخص يحمل سلاحاً فردياً أسود اللون ينعتك بأنّك داعشيّ. لذلك يفضّل الناس السكوت في هذه الحالة". يضيف أنّ "عناصر أمنية مدججة بالسلاح تنتشر في محيط المخيّم وتهدّد المدنيين في حال أيّ تحرّك، كأنّنا في سجن وليس في مخيّم إيواء".

يُذكر أنّ ناشطين سوريين داخل سورية كانوا قد أطلقوا حملة تحت عنوان "مخيّمات الموت"، حاولوا من خلالها تسليط الضوء على وضع المدنيين في المخيّمات، لكنّ الحملة لم تلقَ أيّ استجابة محلية ولا دولية.