عبّارة الموت العراقي... الجميع متهم بكارثة الموصل

22 مارس 2019
كارثة غير مسبوقة (وليد الخالد/ فرانس برس)
+ الخط -

أهل الموصل في شمال العراق، الذين نالت منهم السنوات السابقة قتلاً وتهجيراً ورعباً، لم تكن المعارك والغارات والقصف مصيبتهم هذه المرة، بل السلامة العامّة، إذ قتل أكثر من مائة في غرق عبّارة، فانقلبت احتفالاتهم دفعة واحدة إلى مآتم جماعية.

وتواصل، يوم الجمعة، البحث عن بضعة مفقودين أغلبهم من الأطفال ممن استقرت جثثهم في قاع نهر دجلة بالقرب من مكان غرق العبّارة في الموصل، يوم الخميس، أو ممن جرفهم التيار بعيداً نحو العاصمة بغداد، وسط حالة حداد وحزن واسعة عمّت بلاد الرافدين نتيجة الحادث الأول من نوعه في تاريخ العراق الحديث.

وقد ارتفع عدد الضحايا الذين جرى انتشالهم من النهر إلى نحو 120 قتيلاً أغلبهم من النساء والأطفال. كان هؤلاء يعبرون إلى الضفة الثانية حيث منطقة الغابات التي كانت تشهد احتفالات، للمرة الأولى منذ تحرر المدينة من قبضة تنظيم "داعش"، وذلك في مناسبة عيدي الأم والنوروز.

وشكل رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، مساء الجمعة، خلية أزمة برئاسته، مؤكداً في بيان أن الخلية ستقوم بالمهام التنفيذية في المحافظة، وقالت مصادر محلية إن السلطات قيّدت صلاحيات محافظ نينوى، نوفل العاكوب، ووزعتها على أعضاء خلية الأزمة.

وتضم خلية الأزمة رئيس جامعة نينوى، وقائد عمليات نينوى، وقائد شرطة نينوى، وستقوم بمهامها لحين اتخاذ مجلس محافظة نينوى قراراته في ضوء التحقيقات الجارية حالياً، وصولاً إلى معاقبة المقصرين، وإقرار التعويضات اللازمة.

وقرّر مجلس محافظة نينوى في وقت سابق يوم الجمعة إحالة المحافظ إلى التحقيق على خلفية الحادث، واعتداء قوة حمايته على ذوي الضحايا الغاضبين.

وفي الأثناء، عقدت الرئاسات العراقية الثلاث (رئاسة البرلمان، ورئاسة الوزراء، ورئاسة الجمهورية) اجتماعا طارئا لبحث تداعيات غرق العبارة، وصدر عن الاجتماع تأكيد على انتهاج جميع السبل الكفيلة بمعالجة سوء الإدارة في نينوى، وضرورة معالجة الملف الأمني بالموصل، ومتابعة الإجراءات القضائية لمحاسبة المقصرين، ومعالجة التداعيات التي تسببت بهذه الحادثة للحيلولة دون تكرارها، والتأكيد على تعويض ذوي الضحايا.
وأكد قائد عمليات نينوى، اللواء نجم الجبوري، اعتقال 16 شخصا من المشتبه بهم في غرق العبارة، وباشرت السلطات التحقيق في غرق العبّارة، وقال مسؤول في وزارة الداخلية، يوجد في الموصل مع قيادات أمنية أخرى للوقوف على مجريات التحقيقات، إنّ "الحادث هو الأول من نوعه في العراق، ولم تسجل لدجلة هذه الوحشية من قبل".

وتابع أنّ أغلب العبّارات في المنطقة، وهي بالعشرات، تعود إلى مستثمرين مسنودين من فصائل مسلحة أو من أحزاب سياسية نافذة، ويعملون بلا شروط أمان أو احتياطات سلامة، فلا تتوافر قوارب نجاة أو سترات إنقاذ، مؤكداً أنّ العبّارة التي تتسع لـ60 شخصاً، حملت نحو 180 شخصاً؛ أطفالاً ونساءً ورجالاً، ما أدى إلى انقطاع حبل التوازن مع سرعة تيار المياه، فتسبب ذلك بانقلابها.




وأضاف المسؤول أنّ إدارة سدّ الموصل تتحمل مسؤولية أيضاً، فهي لم تخطر العاملين على دجلة أنّها ستفتح بوابات السدّ كما جرت العادة، إذ يؤدي ذلك إلى ارتفاع منسوب المياه وزيادة سرعة جريانه. وكشف عن اعتقال 11 شخصاً حتى الآن، ليس من بينهم المستثمر الذي توارى عن الأنظار منذ لحظة وقوع الكارثة.

وعن المسؤولية الكبرى قال: "المسؤولية تقع على عدة أطراف، تبدأ من إدارة سدّ الموصل التي لم تخطر أحداً بفتح بوابات السدّ، مروراً بمالك العبّارة والمستثمر والعاملين فيها، ومانح رخصة تشغيل العبّارة بلا معدات سلامة، انتهاءً بالحكومة المحلية والاتحادية ببغداد". ولفت إلى أنّ وزارات الداخلية والصحّة والموارد المائية وهيئة السياحة وجهات سياسية ومسلحة نافذة في الموصل كلّها تشترك بشكل أو آخر بالكارثة بتفاوت في حجم المسؤولية.

ولم تصدر السلطات العراقية أيّ تفاصيل دقيقة حول عدد الأشخاص الذين كانوا على متن العبّارة، بسبب تسجيل فقدان كثيرين ممن لا يزال البحث عنهم جارياً، فبين بيانات تحدثت عن حملها نحو 200 شخص وأخرى تحدثت عمّا هو أكثر، تتحدث أوساط محلية عن كون هذه العبّارة بالذات لا يمكن أن تتسع لأكثر من 170 شخصاً في أقصى الحالات، علماً أنّها مصممة في الأصل لستين فقط.



وقد أعلنت الحكومة العراقية الحداد العام وتنكيس الأعلام لمدة ثلاثة أيام في عموم أنحاء البلاد، وفوق مباني البعثات الدبلوماسية. وتوعّد رئيس الجمهورية العراقي برهم صالح المتورطين بالكارثة بالعقاب، من دون احتمال الإفلات منه.

وزار رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي ووزراء آخرون مدينة الموصل، للوقوف على عمليات الإنقاذ ومساعدة الناجين. بدوره، قال عضو المجلس المحلي في الموصل (الحكومة المحلية) محمد الحمداني لـ"العربي الجديد" إنّ أغلب الضحايا هم من العائلات التي مات جميع أفرادها "في مشهد يذكّرنا بالقصف الذي تعرضت له الموصل، إذ كانت العائلات تقضي بكامل أفرادها تحت سقوف منازلها".
 
وتابع أنّ العبّارة "لم تكن تتوفر على أيّ شروط سلامة ولا حتى وسائل إنقاذ، وقد جرى تحميلها فوق طاقتها الاستيعابية بنحو ضعفين، من أجل الربح المالي طبعاً، فكلّ راكب يدفع ألفي دينار عراقي (نحو دولار ونصف دولار أميركي)"، مؤكداً أنّ الساعات المقبلة ستشهد ارتفاعاً أكيداً لعدد الضحايا.

في الوقت نفسه، أصدر القاضي المكلف من مجلس القضاء الأعلى بمتابعة ملف غرق العبّارة في الموصل، أمر قبض بحق مدير الجزيرة السياحية بالموصل، ومالك العبّارة، وتسعة موظفين آخرين للتحقيق معهم بالحادث، وسط معلومات تشير إلى فرار المستثمر من المدينة إلى إقليم كردستان العراق، وارتباطاته مع فصائل مسلحة نافذة بالمدينة كحال أغلب المشاريع الاستثمارية في الموصل عقب تحريرها من تنظيم "داعش" عام 2017.

من جهته، قال عضو التيار المدني العراقي محمد الربيعي لـ"العربي الجديد" إنّ حادث العبّارة يجب أن يشكّل إنذاراً لإعلان الحرب على الفساد بجميع أشكاله، مضيفاً أنّ الشارع ينتظر من رئيس الوزراء أكثر من زيارة المكان وإعلان تشكيل لجنة تحقيق بالحادث.

أحمد عبد الرزاق الذي فقد زوجته وطفلتيه في النهر ما زال منذ ليلة الخميس على حافة دجلة بانتظار إعلان العثور على طفلته وجْد. وبحسب شقيقه علي، فإنّ زوجته وطفلته الأخرى انتشلت جثتاهما، بينما بقيت الرضيعة التي يعتقد أنّ المياه جرفتها بعيداً عن المكان. وهناك فرق إنقاذ تبحث عنها وعن آخرين ما زالوا في عداد المفقودين. يصف شقيقه أنّ أحمد لا يسمع أحداً ولا يلتفت إلى أحد ولم تنزل له دمعة منذ وصول الخبر وهو في دكانه، لكنّه جامد، ويؤمن كلّ من يراه بأنّ هذه الصدمة قد لا ينجو منها، مؤكداً أنّه يرفض المغادرة وحاولوا سحبه لكنّه قاومهم وعيناه تترقبان النهر، وهو يقف أمامه بلا حول ولا قوة.

وربما تكون الأخبار السيئة لها تتمة، مع ورود تقديرات حول احتمال ارتفاع عدد المتوفين إلى 150 شخصاً بعدما تم العثور أمس على جثث على بعد 20 كيلومتراً من موقع الكارثة.

في أحياء الموصل العتيقة، تتصاعد أصوات البكاء في مشهد يذكّر الداخلين بأيام القصف الجوي على المدينة عقب اجتياح "داعش" لها. وفي شارع واحد من حيّ المهندسين هناك 6 عائلات منكوبة قررت أن تخرج للاحتفال في الغابات بمناسبتي النوروز وعيد الأم، لكنّ عائلات كاملة لم تعد وأخرى عادت بنصف أفرادها أو ربعهم، بعدما ابتلعهم النهر. يقول مختار المحلة عمار الآغا لـ"العربي الجديد" إنّها "باتت محلة منكوبة، كأنّ الحزن والخوف يرفضان أن يغادرا المدينة". يضيف: "موجعة جداً الحال، فقد كنا نبحث عن ضحايا تحت الأنقاض، والآن صرنا نبحث عن ضحايا في مياه دجلة".



ويوم الجمعة، حمّل عضو مجلس محافظة نينوى حسام العبّار، إدارة الجزيرة السياحية في الموصل والشرطة النهرية مسؤولية غرق العبّارة. وقال إنّ "العديد من المواطنين الذين كانوا على متن العبّارة ما زالوا مفقودين بسبب قوة جريان المياه".

ولم يسبق أن عرف العراق كارثة بهذا الحجم غير مرتبطة بالحرب، لا حوادث قطارات أو سيارات أو نقل نهري أو بحري أو كارثة طبيعية بأضرار هائلة في الأرواح.