هل أفلحت؟

01 ابريل 2019
التحرّك لم يعد ممكناً كما في السابق (إيريك لافورغ/Getty)
+ الخط -

هل أفلحت ثورة الاتصالات في بعثرة أوراق إنسان الريف وتشويه خارطة المجتمع الزراعي والرعوي؟ أم إنّها أسهمت في تيسير حياته؟ في الواقع، قضمت هموم البحث عن شاحن الهاتف المحمول وشبكة الاتصال، زمناً ليس باليسير من يوم الراعي، كان يقضيه في السابق باستكشاف مكوّنات بيئته وابتداع أشكال من التعبير لا تتسنّى لسواه. وثمّة من يرى أنّه بات يعرف عن المراعي البعيدة وأماكن توفّر المياه والمخاطر المحدقة به وبحيواناته أكثر بفضل التواصل الميسّر.

أمّا المزارع التقليدي، فقد عدّ فرص التواصل الحديث من أنماط الاستهلاك الذي وقع فريسة له، إلى جانب السياسات الزراعية التي حولته إلى مستهلك بعدما كان منتجاً يغطّي بإنتاجه حاجة نفسه والآخرين، بل يسدّ رمق خزانة الدولة نفسها بما يدفعه من عوائد وضرائب وما يعود على الاقتصاد من جرّاء تصدير منتجاته.

ما يحتاج بحثاً أكثر عمقاً هو تلازم قضايا النزاعات والجفاف مع خطل السياسات، الأمر الذي خلّف مزارعاً في غير مكانه من جرّاء النزوح، وراعياً لا يمكنه التحرّك مثلما كان يفعل في السابق. وما بين النازح البيئي لأسباب ذات علاقة بالتغيّرات المناخية والبيئية في موطنه الأصلي والنازح نتيجة انتشار الحروب والنزاعات، علاقة اغتراب عن الذات غطّى عليه البعض باستمرار حياة الدعة والكسل في المخيّمات، وتلقّي الغذاء والدواء والكساء. واستقرّت الحال بالبعض على احتراف السياسة، فيمارسونها من ضمن منظومة مهترئة تهتم بالمصالح الذاتية وتُغلّب الخاص على العام.

السواد الأعظم من هؤلاء يغالبون الحال في محاولاتهم التمسّك بمهنة الأجداد، تتقاذفهم أهواء السياسيين، غير أنّهم باقون هناك على حدود الواقع، مع ذكريات الماضي في حياتهم وأحلامهم بمستقبل أكثر رحمة من حاضرهم.




في القرى القصّية، تنظّم الأسواق الأسبوعية، فيرتادها بانتظام باعة متجوّلون يعرضون مختلف السلع والخدمات، ومن بينها خدمات السياسة وتآمرها. كذلك تجد من يقدّم نظير قيمة معلومة خدمة شحن الهواتف جالساً إلى لوحة خشبية مملوءة بمختلف أنواع أجهزة الشحن. وفي السوق تجد منتجات الغابات بأنواعها، والمحاصيل والخضراوات، والسلع الاستهلاكية الأخرى، ومن بينها وحدات الطاقة الشمسية الصغيرة لزوم شحن الهواتف المحمولة. لكن، لا تدع الحزن يملؤك حين تكتشف أنّ الميزان المنصوب وأرتال جوالات (شوالات) العلف والعامل الحامل هاتفه لإجراء العمليات الحسابية، يوزن ويحدّد قيمة كل جوال (شوال) بحسب جودة العلف، مظهراً إيجابياً. ففيه من السلبية ما فيه، إذ إنّ أصحاب المزارع الصغيرة باتوا يجلبون مخلفات حصادهم لبيعها كعلف بعدما كانت ممنوحة لأفراد الأسرة في إطار التبادل السلعي والقيمي والاجتماعي.

مدير غابات غبيش بغرب كردفان أفاد بأنّ من شأن هذه التحوّلات جعل النزاعات قابلة للاشتعال في ما بين أفراد الأسرة الواحدة، وبات تدخّل الإدارات الأهلية لا يجدي في ظل الاستقطاب السياسي وغياب الأحكام التي كانت تُستمدّ من الأعراف التقليدية.

*متخصص في شؤون البيئة
المساهمون