عادت "صفقة القرن" إلى الواجهة من جديد يوم 28 يناير 2020، وهي الصفقة التي تعد بمثابة القشّة التي يتعلَّق بها كل من الرئيس الأميركي ترامب وبنيامين نتانياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال المنتهية ولايته، الذي قد ينتهي به الحال خلف القضبان في حال إدانته بتهم الفساد.
وتتسم الصفقة ببنودها المجحفة في حق الشعب الفلسطيني وخطوطها العريضة التي تضمن كل شيء للإسرائيليين. وستكون الصفقة التي تحمل اسم "خطة السلام الأميركية في الشرق الأوسط" صفعة القرن الموجعة التي سيوجِّهها ترامب بالتعاون مع الكيان الصهيوني إلى العالم العربي بأكمله، حيث ستسمح، من خلال ضخّ مليارات الدولارات، بتحويل دولة الاحتلال إلى قوّة اقتصادية تربط بين الشرق والغرب، خاصة بعد بتر أذرع إيران وذوبان الجليد بين إسرائيل وبعض الدول العربية كالإمارات، السعودية، البحرين، سلطنة عمان، وقبلها مصر والأردن، وأخيراً السودان>
فقد صُمِّمَت تلك الخطة لتفيد إسرائيل اقتصادياً على حساب فلسطين، حيث ستُسخَّر العمالة الفلسطينية الرخيصة لخدمة الاقتصاد الصهيوني الذي سيتوسَّع أكثر من ذي قبل. فالوظائف الجديدة التي ستُخلَق، ستكون محصورة في دائرة الاقتصاد الإسرائيلي، على عكس ما رُوِّج له سابقاً.
لقد خصَّصت صفقة القرن جانباً من خطتها لإزالة ما بقي من الاقتصاد الفلسطيني، حيث ستصبح الحكومة الإسرائيلية مسؤولة عن كل جانب من جوانب حياة الشعب الفلسطيني الذي لن يستطيع مزاولة أيّ نشاط اقتصادي تحت السيطرة الإسرائيلية التي ستقيِّد كل تحرّكاته.
وهناك أجزاء من هذه الصفقة ستُحقَّق في المدى الطويل، كإمكانية تسهيل استثمار 50 مليار دولار على مدى 10 سنوات في البنية التحتية الفلسطينية، ويبرز دهاء هذا المشروع الصهيوني الأميركي في إعلان إنفاق مليارات الدولارات على الاستثمارات في مشاريع البنية التحتية والنقل الكبرى للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة الإسرائيلية ضمّ المزيد من الأراضي المحتلة، الأمر الذي يدلّ على أنّ إسرائيل ستستثمر فعلياً في بنيتها التحتية، لأنّ بنود الخطة تؤكِّد بوضوح أنّه يحقّ لإسرائيل الاحتفاظ دائماً بالأراضي التي استولت عليها بنحو غير قانوني.
سيُقسَّم مبلغ 50 مليار دولار الذي يتبجَّح به جاريد كوشنر، صهر ترامب، والمصمِّم والراعي الرسمي للخطة الجهنمية كالآتي: 27.8 مليار دولار فقط من المبلغ ستذهب مباشرة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما يذهب الباقي إلى الدول المجاورة كثمن مسبق لصمت تلك الدول في عملية بيع فلسطين، حيث لا يتجاوز مبلغ 27.8 مليار دولار مبلغ صفقة المساعدات العسكرية التي أبرمتها الولايات المتحدة مع إسرائيل في عام 2016، الذي قُدِّر بـ38 مليار دولار، وهذا ما يعكس بشكل جلي أنّ إسرائيل تريد الحصول كل شيء، ولا تريد أن تعطي الفلسطينيين سوى الفتات.
تُخصِّص الخطة الأميركية 1.5 مليار دولار لإنشاء مركز للغاز الطبيعي قبالة الساحل المصري و500 مليون دولار لتزويد الأردن ببنية تحتية وطنية للأمن السيبراني من أجل إتاحة الفرص لمزيد من التعاون السيبراني الدولي.
وفي الواقع، لا تتَّضح فوائد هذه المشاريع التي ستعود على الفلسطينيين، والحقيقة الخفية أنّ إسرائيل لديها مصالح طويلة الأمد في كل من احتياطيات الغاز في البحر الأبيض المتوسط وتكنولوجيا الأمن وبرامج التجسُّس.
خُصِّص ما مجموعه 6.33 مليارات دولار للبنان في الخطة الأميركية، والغريب في الأمر أنّ لبنان لا يتقاسم الحدود مع غزة أو الضفة الغربية، ولم يرسل أيّ وفد تمثيلي إلى مؤتمر البحرين، ويرفض إقامة أي علاقات دبلوماسية أو اقتصادية مع إسرائيل المجاورة، وبالتالي تأمل إدارة ترامب إغراء بيروت بعلاقات أفضل مع إسرائيل.
تعتبر هذه الخطة بمثابة إعلان لشنّ حرب شرسة على الشعب الفلسطيني، وبالتالي فهي تتعمَّد تحويل مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى لاجئين، وعلاوة على ذلك تنص تلك الخطة على استحالة عودة أو استيعاب أيّ لاجئ فلسطيني في إسرائيل، وهذا ما يؤدِّي إلى إقصاء أكثر من 5.4 ملايين لاجئ، وهو ما يجعل صفقة القرن غطاءً ممتازاً لعملية التطهير العرقي الذي تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين، فعن أيّ تحسين لرفاهية الشعب الفلسطيني يتحدثون؟
وتتمثل الحيلة التي تنطوي عليها هذه الخطة بتخصيص 13.7 مليار دولار كتمويل مستقبلي للبنان والأردن، اللذين يضمّان الآن ما يُقدَّر بنحو 2.5 مليون لاجئ فلسطيني، ولكن لا يوجد أيّ بند في الخطة يدلّ على تخصيص تلك الأموال للفلسطينيين بالفعل في هاتين الدولتين.
يعلم مصمِّم الخطة الأميركية أهمية تعليم الفلسطينيين ودوره في ازدهار اقتصادهم، لذلك حرص بشدّة على التركيز على دعم المدارس في المناطق المحرومة من الخدمات، ولكنه تجاهل تماماً هدم القوات الإسرائيلية للعديد من المدارس التي يُموِّلها الاتحاد الأوروبي في الضفة الغربية وغضّ بصره تماماً عن مصير 500 ألف طالب فلسطيني تأثّروا بقرار الولايات المتحدة بوقف تمويل الأونروا في عام 2018. وتجدر الاشارة هنا إلى أنّ تقديم شيء واحد للفلسطينيين في هذه الخطة يقابله في الواقع حرمانهم عدّة أشياء، والخطير في الأمر أنّ الخطة تنطوي على العديد من البنود المشروطة من أجل تمويل الاستثمارات، مثل "إذا تمّ تنفيذها" أو "إذا حقَّقت الحكومة إمكاناتها"، ما يدلّ على عدم وجود أيّ تمويل أكيد.
وتهدف الخطة التي تعتبر أنّ الفلسطينيين ليسوا مواطنين، ولكنّهم مجرَّد مستهلكين، إلى حصول غزة والضفة الغربية على 0.70 في مؤشر رأس المال البشري للبنك الدولي، أي أحسن من الصين (0.67) والإمارات (0.66) وأفضل حتى من البحرين (0.67) التي استضافت المؤتمر الذي مهَّد لصفقة القرن.
خلاصة القول، أنّ خطة السلام المزعومة لا تعدو كونها مجرَّد سياسة "العصا والجزرة" الأميركية في لعبة المفاوضات بين الغرب والعرب، فهي تقوم أساساً على تجريد الفلسطينيين من حقوقهم والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية التامة ومنح الفاتورة للدول العربية الخاضعة للسيطرة الترامبية.
ويمضي ترامب قدماً في كل خططه الهادفة إلى تقوية الاقتصاد الأميركي وترسيخ الكيان الصهيوني باستغلال ثروات الدول العربية، ولا سيَّما الخليجية، التي لا تستطيع الصمود للحظة خارج الحماية الأميركية، كذلك يستمرّ ترامب بتوجيه الضربات القاضية الواحدة تلو الأخرى إلى منطقة الشرق الأوسط، لعدم وجود رادع أو مانع، وفي ظلّ السُّبات العربي من المتوقَّع أن يتمسَّك الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأمل إطاحة ترامب في انتخابات هذا العام.