3 سنوات من الفقر المدقع والغلاء الفاحش والتقشف العنيف وقفزات الديون الخارجية والداخلية وعجز الموازنة العامة للدولة وتهاوي قيمة العملة المحلية، كافية للحكم على برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري الذي نفذته الحكومة المصرية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي ولمدة 3 سنوات تنتهي اليوم الإثنين.
ورغم هذه المؤشرات الخطيرة، إلا أن الحكومة المصرية لا تزال تصر على "نجاح البرنامج بصورة مبهرة أذهلت العالم أجمع والمؤسسات المالية الدولية، وأنه في ظل البرنامج تم تحقيق ثاني أكبر فائض بالموازنة على مستوى العالم، وأن البرنامج المصري بات نموذجًا للدول الراغبة في إجراء إصلاح اقتصادي"، وذلك حسب التصريحات الصادرة عن كبار المسؤولين من آنٍ لآخر.
ومع الإصرار الرسمي على نجاح البرنامج المصري، فإن السؤال المطروح هنا هو: هل يقدم لنا أحد دلائل ملموسة ومؤشرات قوية على نجاح البرنامج الذي حصلت مصر بموجبه على قرض بقيمة 12 مليار دولار مقابل تنفيذ التزامات، منها تعويم العملة، وخفض الدعم الحكومي، وفرض ضريبة القيمة المضافة.
الاحتياطي النقدي
لا نريد كلمات فضفاضة ومؤشرات خادعة من عيّنة أنه في ظل برنامج الإصلاح حدثت قفزة في احتياطي البلاد من النقد الأجنبي والذي تخطى 45.2 مليار دولار نهاية أكتوبر الماضي، فالقاصي والداني يعرف أن الاحتياطي تمت إعادة بنائه عبر الاقتراض الخارجي الكثيف، وليس عن طريق زيادة موارد البلاد من النقد الأجنبي، خاصة مع تراجع إيرادات الاستثمارات المباشرة وتحويلات العاملين في الخارج.
أو أن يتحدث أحد عن تسجيل مصر أسرع معدلات نمو في الشرق الأوسط، ليصل المعدل إلى 6.5% في عام 2018، فالجميع يعرف أن أسباب زيادة معدل النمو لا تكمن في زيادة إنتاج البلاد، خاصة من القطاعات الموفرة لفرص العمل والمدرّة للنقد الأجنبي مثل الصناعة والصادرات والزراعة.
بل إن قفزة المعدل تأتي من عاملين رئيسيين هما كثافة الاقتراض سواء الداخلي أو الداخلي، والطفرة التي شهدتها قطاعات البنية التحتية والبناء والتشييد والعقارات والمشروعات القومية الكبرى، وفي مقدمتها العاصمة الإدارية، والتي وفرت فرص عمل مؤقتة لملايين العمال.
رضا المصريين الاجباري
ولا أحد يدلل على نجاح البرنامج بقصة تقبّل المصريين للإجراءات التقشفية العنيفة المصاحبة له "وثقتهم في القائمين عليه" كما تقول المصادر الحكومية، فالقاصي والداني يعرف أن المصريين صمتوا تحت تهديد الاعتقال، وأن السجن كان في انتظارهم في حال الاعتراض، وأنهم عبّروا عن موقفهم الحقيقي حينما سمح لهم بالخروج يوم 20 سبتمبر الماضي.
ومن حين لآخر، يدلل مسؤولون على نجاح البرنامج المصري بإشادة المؤسسات المالية الدولية المقرضة للبرنامج، وهذا ليس دليلا، فهذه المؤسسات هي التي سبق أن أشادت بتجربة النمور الآسيوية قبل انهيارها مباشرة.
كما أن صندوق النقد هو المقرض الرئيسي لمصر والمعتمد لبنود البرنامج، والمقرض لا ينتقد خططه وبرامجه وإملاءاته، لأنه هو من يقف خلفها ويشرف على تنفيذها، وإلا دان نفسه في النهاية، خاصة مع تقديرات الصندوق الخاطئة، سواء لقيمة العملة المصرية قبل تعويمها أو حجم الدين الخارجي والاستثمارات الخارجية، كما أن المقرض في النهاية لا يهمه سوى استعادة أمواله.
نجاحات نقدية
نعم برنامج الإصلاح الاقتصادي حقق نجاحات على المستوى المالي والنقدي، ومن أبرز نجاحاته أنه أعاد الاستقرار لسوق الصرف الأجنبي وقضى على السوق السوداء للعملة التي تغولت خاصة في فترة ما قبل نوفمبر 2016، وهذه نقطة تحسب للبرنامج.
لكن في المقابل، فإن السؤال هنا: هل انعكس نجاح البرنامج على حياة الناس ومعيشتهم، وهل انعكس على مؤشرات الاقتصاد خاصة عجز الموازنة العامة والدين العام، وهل ساهم في زيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية، خاصة مع تحرير سوق الصرف وتعويم الجنيه؟
الإجابة بالطبع لا، وهناك دلائل ومؤشرات قوية على أن البرنامج لم يحقق أهدافه الرئيسية، وفي مقدمتها إصلاح الخلل في المركز المالي للدولة، ومعالجة أزمات الدين العام والبطالة والفقر، ولم يساهم في تقوية العملة المحلية التي فقدت نحو نصف قيمتها، كما لم يلعب دوراً في زيادة موارد البلاد من النقد الأجنبي حتى مع تعويم الجنيه.
زيادة الفقر
وأبرز دليل على إخفاق البرنامج في تحقيق أهدافه زيادة معدل الفقر خلال السنوات الثلاث الماضية، خاصة الفقر المدقع، بشهادة الأرقام الرسمية، كما تلاشت الطبقة الوسطى أو كادت تتلاشي، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لتماسك المجتمع.
وقد تحمّل المصريون العاديون العبء الأكبر للإصلاحات الاقتصادية في شكل قفزات متواصلة في الأسعار وخفض في الدعم الحكومي.
ووفقا للبيانات الحكومية، فإن نحو ثلث المصريين يعيشون تحت خط الفقر، أي ما يزيد على 35 مليون مواطن، وأن معدلات الفقر قفزت إلى نحو الضعف منذ عام 2000.
قفزات الأسعار
كما أسفر تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي عن حدوث قفزات غير مسبوقة في الدين العام الذي اقترب من 6 تريليونات جنيه بنهاية مارس الماضي.
وإذا سار معدل الاقتراض على ما هو عليه يكون الدين العام قد تجاوز رقم 7 تريليونات حاليا مقابل 1.7 تريليون فقط في منتصف العام 2013، كما شهد الاقتراض الخارجي قفزات عقب تطبيق البرنامج دفعت به إلى حاجز الـ 110 مليارات دولار، وهو مؤشر خطر بشهادة مؤسسات عالمية محايدة، منها وكالة موديز، التي حذرت مؤخرا من هذا الصعود، فهل تراجع الدين أم شهد قفزات في نهاية تطبيق البرنامج؟
وبدلاً من أن يعالج برنامج الإصلاح عجز الموازنة العامة للدولة نجد أن العكس هو ما حدث، فقد تفاقم العجز إلى مستويات خطرة، وباتت قيمة أقساط الديون المستحقة وأسعار الفائدة المستحقة عليها تقارب إيرادات الدولة. حدث ذلك رغم زيادة أسعار الوقود 5 مرات خلال 5 سنوات وزيادة فواتير النفع العام من كهرباء ومياه ورسوم حكومية وأسعار سلع غذائية وغيرها.
ضرائب من كل نوع
أما عن زيادة الضرائب في ظل تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، فحدّث ولا حرج، لدرجة أنها باتت تمثل نحو 80% من الإيرادات العامة للدولة. وفي ظل تطبيق برنامج الإصلاح شهدت مصر ولأول مرة تطبيق ضريبة القيمة المضافة التي تستهدف الحكومة زيادة حصيلتها 14% في موازنة 2019-2020 إلى 364.657 مليار جنيه (21.287 مليار دولار)، مقابل 320.148 مليار جنيه مستهدفة في السنة المالية الحالية 2018-2019، وهو ما يعني اعتماد إيرادات الدولة على جيب المواطن وضرائبه ورسومه.
وعلى مستوى المواطن، فقد أدخل برنامج الإصلاح الاقتصادي رجل الشارع في سباق مع قفزات الأسعار التي لا تنتهي، والتي ألقت بملايين المصريين في أتون الفقر المدقع بشهادة البنك الدولي.
رهن القرار المصري
ببساطة، لقد رهن البرنامج المصري قرار البلاد الاقتصادي للدائنين الخارجيين الذين باتوا يحددون أولويات الإنفاق، سواء على التعليم أو الصحة وغيرها، وبات صندوق النقد الدولي له القول الفصل في القرارات الاقتصادية المصيرية عبر ممثله المقيم في القاهرة.
الفائزون الحقيقيون من برنامج الإصلاح الاقتصادي هم المستثمرون الأجانب أصحاب السندات الدولية الذين حصلوا على أسعار فائدة على أموالهم المستثمرة بلغت نحو 20% في بعض فترات تطبيق البرنامج، وكذا الدائنون الإقليميون والدوليون. أما الخاسر الأكبر، فهو المواطن والاقتصاد والأجيال المقبلة.
دوامة القروض
لا ينكر أحد أن لبرنامج الإصلاح الاقتصادي إيجابيات على المستوى النقدي، خاصة على مستوى القضاء على اضطرابات سوق الصرف التي كادت أن تعصف بالاقتصاد المصري، لكن تكلفة البرنامج كانت عالية جداً على الاقتصاد والمواطن، وأن نتيجته والمردود منه كانت ضعيفة مقارنة بالفاتورة التي تحمّلها الجميع، بمن فيهم الأجيال القادمة والمركز المالي للبلاد.
وأكبر دليل على ذلك أن مصر في عهد صندوق النقد دخلت في دوامة القروض التي لا تنتهي، فالحكومة تقترض لسداد ديون مستحقة مع تأجيل سداد بعض الديون الأخرى، كما حدث مؤخرا مع ديون السعودية والكويت والإمارات.
كما تواصل الحكومة سياسة رفع أسعار السلع والخدمات والرسوم الحكومية وزيادة الضرائب والجمارك وتحرير أسعار الوقود والكهرباء.
ولم تكتف بذلك، بل تسعى للدخول في اتفاق جديد مع الصندوق بداية من شهر مارس القادم، قد تصاحبه إجراءات أكثر عنفاً من الإجراءات التقشفية السابقة، مثل إلغاء مجانية التعليم والعلاج.