انهيار الطبقة الوسطى في مصر

20 يونيو 2018
المواطن المصري ضحية زيادات الأسعار (فرانس برس)
+ الخط -

تحت عنوان "حواري وفيلات"، نشرت مجلة الإيكونوميست هذا الأسبوع موضوعاً عن أزمة الإسكان في الشرق الأوسط، تحدث فيه الكاتب عما يراه السائر في شوارع القاهرة، وتحديداً في التجمعات السكانية الجديدة من قصور وفيلات فخمة، أغلبها محاط بمساحات كبيرة من الحدائق، وبداخل بعضها حمامات سباحة، وهو ما جعله يتذكر ضواحي كاليفورنيا، خاصة بعد أن اطلع على أسمائها. ولفت نظره إحدى لافتات الإعلان عن مشروع سكني، جاء فيها "أهلاً بكم في الناحية الفضلى من الحياة". 

ووصف الكاتب النصف الثاني من رحلته، حيث سلك الطريق الدائري على ما يبدو في طريقه للعودة إلى محل إقامته، وقال إن الطريق كان محفوفاً بالبيوت المبنية بالطوب الأحمر، والتي لم يتم الانتهاء من تشطيب أغلبها، حيث تظهر الأعمدة الخرسانية بلونها، بينما تبرز بقايا القضبان الفولاذية فوق أسطحها. وعلق مؤكداً أن "الناحية الفضلى من الحياة تبدو بعيدة جداً".

يعرف أغلبنا الشكل الذي وصفه الكاتب لإحدى المتناقضات في شوارع قاهرة المعز، وربما يمر بعضنا بالناحيتين يومياً. ونعلم جميعاً أن القاهرة شهدت خلال السنوات العشر الأخيرة طفرة في البناء، ومع ذلك فإن أزمة نقص المساكن بالنسبة للأغلبية العظمى من الشعب آخذة في الاحتداد، حيث ترتفع تكلفة الحصول على منزل متوسط، ولو لم يوفر الأهل لأبنائهم سكناً، فعلى الأغلب سيقاسي الأبناء الأمرين للحصول على مأوى، على الرغم من أن أحدنا لا يكاد يسلم من رسائل ومكالمات البائعين على مدار اليوم، الذين يعرضون فيلا أو شقة فاخرة في واحدة من "النواحي الفضلى من الحياة".
ترتفع أسعار المعروض من تلك المنازل الفاخرة طوال الوقت، حتى أصبحت وسيلة الادخار المفضلة عند شرائح من المصريين، خاصة بعد ما شهدته العملة المصرية من تدهور في قيمتها على مدار السنوات الأخيرة.

ويحاول العارضون اجتذاب الأسر الصغيرة من العاملين بالقطاع الخاص وأصحاب الدخول المرتفعة، عن طريق منحهم فترات سداد طويلة، وأحياناً بدون دفعات مقدمة، لكن تكلفة تلك المنازل تفوق عادة راتب ألف شهر لمن يحصلون على الأجر المتوسط في مصر.

بعض الإحصائيات تذكر أن أكثر من نصف سكان القاهرة، أو حوالي 13 مليون شخص، يعيشون في مناطق عشوائية، أي أن بيوتهم مبنية بالجهود الذاتية، سواء على أراض تخصهم أو على أراضي الدولة.

ولما كانت هذا البيوت قد بنيت دون الحصول على تراخيص رسمية، فقد امتنعت الحكومة عن توفير الخدمات والمرافق الأساسية لها، ومع ذلك فقد استطاع أغلب سكانها توفير تلك الخدمات بطريقةٍ ما.

ومن ضمن تلك الملايين، يعيش أكثر من مليون شخص في مناطق تعتبرها الحكومة غير آمنة، ولا تتوفر فيها المياه النقية، ولا تتمتع بخدمات صرف صحي، ومع ذلك فإن الآلاف من سكان القبور يحسدونهم عليها.
هذه المأساة اعتدنا عليها في حياتنا، رغم أنها تنذر بالعديد من المشكلات الاجتماعية مستقبلاً. فالشاب الذي يعرف أنه لن يستطيع تدبير تكلفة منزله لن يقدم على الزواج، وستكون النتيجة ارتفاع سن الزواج وما يصحبه من انهيار أخلاقي وتزايد معدلات الجريمة. فالدولة التي يسكنها حوالي 100 مليون مواطن، أكثر من نصفهم تحت سن العشرين، تحتاج حوالي 600 ألف وحدة سكنية كل عام. فهل تدرك الحكومة المصرية ذلك؟ وهل تعمل على حل المشكلة قبل انفجارها؟ أم أنها تتركها أيضاً للجهود الذاتية؟!

نفس الأمر ينطبق على تعامل الحكومة مع الزيادات المتتالية في أسعار الطاقة في مصر، بناء على روشتة الإصلاح التي كتبها صندوق النقد الدولي، أو التي كتبناها بكامل إرادتنا ولم يفرضها علينا الصندوق، فالحكومة تدرك جيداً أن بعض أنواع الوقود والطاقة تجاوز سعرها ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل أربعة أعوام، كما تدرك أن ذلك ترتب عليه زيادة ضخمة في أسعار كل شيء تقريباً، في الوقت الذي لم يحدث فيه زيادات مقاربة في رواتب الموظفين.

وتدرك الحكومة أيضاً أن ذلك أدى لانخفاض كبير في مستويات معيشة أغلب المصريين، وانهيار الطبقة الوسطى، ونزول أعداد ضخمة من المنتمين إليها إلى ما دون خط الفقر.

الدخول التي كانت بالكاد تكفي تسيير الأمور لم تعد قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للأسرة المصرية، من مسكن ومأكل ومواصلات وتعليم وصحة، وتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بأمثلة لتكلفة الحد الأدني من مصاريف الانتقال، مع تناول وجبات رخيصة، تتجاوز في أغلب الأحيان ما يحصل عليه المواطن المصري من راتب، ويستحيل معها التفكير في أي نفقات إضافية تتعلق بالاحتياجات الطبيعية للمواطن.

فماذا فعلت الحكومة؟ وهل تفكر في محاولة إيجاد حلول لمساعدته؟ أم تتركه أيضاً للجهود الذاتية؟ ألا تدرك الحكومة أن عدم وجود بدائل أمام المواطنين يدفعهم للتورط في الفساد وغيره من الجرائم من أجل الحصول على المال؟ وماذا سيحدث عندما يحتاج المواطن لمصاريف إضافية للعلاج مثلاً؟
لقد اختارت الحكومة الحل السهل، المتمثل في اقتراض مبالغ ضخمة، داخلياً وخارجياً، لحل أزماتها المالية. لم تنزعج الحكومة من التحذيرات من تضخم الدين ومن ارتفاع تكلفة خدمته، حتى بعد تجاوز تلك التكلفة نصف ما يتم تحقيقه من إيرادات، وهو ما ترتب عليه تقليص ما يتم توجيهه للانفاق على الصحة والتعليم والصرف الصحي.

وبناء عليه، فإن الحكومة مطالبة بالعمل على مساعدة المواطن لإيجاد حلول، وإلا فإنها تدفعه نحو الفساد والانحلال الأخلاقي، وتشجع على زيادة التسرب من التعليم.

لا يمكن للحكومة، حتى لو لم تكن هي المتسببة فيما وصلنا إليه الآن، أن تتخلى عن المواطنين، لأن نتيجة ذلك بالتأكيد ستكون كارثية، وستقضي على ما تبقى من الدولة المصرية، وقديماً قال أبو ذر الغفاري "عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه".
المساهمون