مصر تبيع أصولها

09 فبراير 2018
+ الخط -

تعاني الحكومات من الأزمات المالية، وتحاول الخروج منها مثلما يفعل الأفراد. ولو قارنّا بين ما فعلته وتفعله الحكومة المصرية في أزماتها المالية خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً أزمة العجز في ميزان المدفوعات، وما قد تفعله أُسرَةٌ صغيرةٌ، تتعامل مع جيرانها بيعاً وشراء طوال العام، وتتم تصفية الحسابات مع نهاية كل عام، فيما يشبه ميزان المدفوعات للدول، لوجدنا تشابهاً كبيراً.

عندما تجد هذه الأسرة نفسها في نهاية العام اشترت أكثر مما باعت لجيرانها، فلا بد لها من موارد تمكنها من سداد هذا العجز. وأول ما تلجأ إليه أسرة في مثل هذه الظروف، هو السحب من مدخراتها في البنوك لسداد ما عليها، فيما يشبه السحب من احتياطي النقد الأجنبي بالنسبة للدول، وهو ما فعلته الحكومة المصرية في الفترة من 2011 إلى 2016، حتى انخفض احتياطي النقد الأجنبي من حوالى 36 مليار دولار إلى ما يقرب من 12 مليار دولار.

بعد ذلك، تلجأ الأسرة للاقتراض من الأقارب والمعارف، ثم البنوك. فاتجهت حكومتنا للاقتراض من تركيا وقطر وليبيا، ثم السعودية والإمارات والبحرين.

لكن البنوك لا تقرض من يمر بأزمات، وإنما تقرض من لديه القدرة على السداد، ولذلك فقد زادت الحكومة المصرية من اقتراضها من "الدول الشقيقة"، من أجل رفع رصيدها من احتياطي النقد الأجنبي، لتتمكن من إصدار سندات دولية وأيضاً الاقتراض من المؤسسات الدولية، حتى وصلت مديونية مصر الخارجية إلى حوالى 79 مليار دولار بنهاية يونيو / حزيران من العام الماضي، وهو آخر رقم معلن من الحكومة المصرية، إلا أن وكالة فيتش، في تقرير لها صدر من أسبوعين، قدرت ديون مصر الخارجية بحوالى مائة مليار دولار.

أهم مشكلات ارتفاع الديون الخارجية لمصر هي اضطرارها لسداد مبالغ طائلة كل عام لخدمة تلك الديون. ويكفي أن نعرف أن المستوى الحالي للديون (الخارجية فقط) يتطلب دفع مبلغ أربعة مليارات من الدولارات كفائدة (فائدة فقط) كل عام، تزيد من العجز في ميزان مدفوعاتنا، وتسحب من المبالغ التي كان يمكن توجيهها للاستثمار في التعليم والصحة والصرف الصحي.


ويفرض المُقرِضون سعر فائدة مرتفعة على تلك القروض لأننا لا نملك بدائل، فيقرضنا البنك الأوروبي للإعمار والتنمية على سبيل المثال بفائدة تتجاوز 9%، في وقت تراوحت فيه معدلات الفائدة على السندات الأمريكية بين 1.5% - 2.5%. ويلاحظ هنا أن التكلفة المادية ليست أسوأ ما في الموضوع، فهناك تكاليف معنوية كثيرة شديدة الإيلام، وما التنازل عن الجزيرتين للسعودية عنا ببعيد.

وبعد أن تقترض الأسرة ما تستطيع اقتراضه، وفي غياب تام لأية مشروعات تُدِرُّ عائداً يفوق الفوائد المستحقة، تستمر مديونيتها في الارتفاع، وتضطر في السنوات التالية إلى بيع بعض ما تملك من أثاث داخل المنزل. وقد أعلنت الحكومة المصرية بالفعل عزمها التخلص من مساهماتها في العديد من الكيانات التي كانت تملكها أو تساهم فيها، ومنها على سبيل المثال شركة إنبي للبترول، وبنك القاهرة.

ونتيجة لكونهما أكبر مقرضتين لمصر، استحوذت السعودية والإمارات على نصيب الأسد في شراء الأصول المصرية، والتي أصبحت زهيدة الثمن للأجانب بعد تعويم الجنيه المصري.
وفي حصيلة يوم واحد، كما تظهر في نشرة ملخصة تصل إلى بريدي الإلكتروني يومياً، ظهر أن شركة سعودية أميركية وقعت عقداً لإنشاء مدينة ترفيهية متكاملة في محافظة مطروح.

كما وقعت شركة العروبة الإماراتية عقداً مع نفس المحافظة لاستثمار سياحي ضخم على مساحة 172 فداناً، وعقداً آخر لتشغيل مصنع تمور بواحة سيوة لمدة خمسة عشر عاماً.
كما تعتزم مجموعة الطيار السعودية ضخ استثمارات جديدة في القطاعين السياحي والعقاري بمصر تتعدى قيمتها مليارات الجنيهات، كما عقد وفد من الشركة لقاء مع وزير الإسكان، لبحث فرص ضخ استثمارات في العاصمة الإدارية ومدينة العلمين الجديدة.

ودعا أعضاء مجلس الأعمال المصري السعودي - وفقاً للنشرة ذاتها - لإقامة تعاون ثلاثي بين القطاع الخاص في مصر والإمارات والسعودية بنظام المناطق الحرة ذات الميزات الخاصة.
وأعلنت الشركة الوطنية للتبريد المركزي، المملوكة لحكومة أبو ظبي، نيتها الاستحواذ على أصول في مصر هذا العام، كما أعلنت أنها ستوفر التمويل المطلوب لتلك الصفقات من التدفقات المالية للمشروعات التي سيتم الاستحواذ عليها!

كل هذا في نشرة يومٍ واحدٍ فقط. هذا بالطبع بخلاف تغول الشركات السعودية والإماراتية على الشركات المصرية في مجال العقارات، والرعاية الصحية، والأغذية، بالإضافة لآلاف الأفدنة، التي يتم تخصيصها لهم في طريقي السويس والإسماعيلية، وفي الساحل الشمالي والوادي الجديد، بعيداً عن أي رقابة حقيقية، سواء في ما يتعلق بأحقية صاحب القرار في بيع ما يباع، أو بعدالة السعر الذي يتم به البيع.

لا أناقش هنا صحة قرار بيع الأصول المصرية حالياً أو خطأها، ولكن كل ما أرجوه أن تكون هناك شفافية، تسمح بتحقيق رقابة فاعلة عند تنفيذ تلك الصفقات. فليس صحيحاً أن كل قطعة أثاث في المنزل يمكن بيعها، كما أنه لا يصح أن نتنازل عن أي من الغرف الموجودة في منزلنا.


وفي النهاية، فإن بعض الخدمات المتوفرة بالمنزل، كالكهرباء، والماء، والصرف الصحي مثلاً، لا يمكن التنازل عنها للغرباء مهما كان الثمن مغرياً، وإلا سيجيء اليوم الذي يمنعنا فيهه هؤلاء الغرباء من ممارسة حقوقنا الطبيعية في منزلنا.

السياسات الاقتصادية الحالية حملت الأجيال القادمة عبئاً ضخماً من القروض وفوائدها، وتسرق الآن نصيبهم من ممتلكات الدولة وما يمكن أن تدره من عائد، وهو ما يزيد من صعوبة أوضاعهم في المستقبل القريب، ويحرمهم من الأدوات التي كان يمكنها أن تساعد في حل أزماتهم، ولو استمررنا على هذا النهج، فلن يسامحنا أبناؤنا وقتئذٍ على ما فعلناه بهم، وعلى الثروات التي أبدناها بأبخس الأثمان.
دلالات
المساهمون