أظهرت بيانات حديثة انخفاض المبالغ المستثمرة في سندات الخزانة الأميركية من قبل الدول الأجنبية، للشهر الثالث على التوالي، لا سيما من الصين، التي تستحوذ وحدها على ما يقرب من 19% من إجمالي السندات، ما أثار توجسا في الأوساط المالية العالمية من إمكانية استخدام ورقة السندات في الضغط على إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي تدق طبول حرب تجارية متعددة طاولت حتى شركاءها الرئيسيين.
ورأى محللون أنه بإمكان مالكي السندات الأميركية دفع الاقتصاد الأميركي المثقل بالديون نحو الهاوية، إذا قرروا التخلص من حيازتهم للسندات، لكن ذلك سيكون بمثابة إطلاق النار على أقدامهم أيضا، لأن ذلك سيضرب الاقتصاد العالمي ككل.
ولم يستبعد السفير الصيني لدى الولايات المتحدة كيو تايانكاي، أن تقوم بلاده بخفض حيازتها من السندات الأميركية، وذلك في رد على سؤال من وكالة بلومبرغ الأميركية مساء الجمعة.
وبحسب بيانات صادرة عن وزارة الخزانة الأميركية في وقت سابق من مارس/ آذار الجاري، انخفض إجمالي ما يملكه الأجانب من سندات الخزانة الأميركية في نهاية يناير/ كانون الثاني 2018 إلى حوالي 6.260 تريليونات دولار، بعد أن كان 6.285 تريليونات دولار في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2017، أي قبل شهر واحد فقط.
وتراجعت أرصدة الصين، صاحبة أعلى رصيد من تلك السندات، في أغلب فترات السنوات الأخيرة، إلى أدنى مستوياتها في ستة أشهر، لتصل إلى 1.168 تريليون دولار بنهاية يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، بعد أن كانت 1.185 تريليون دولار في نهاية الشهر السابق.
وتستحوذ الصين حالياً على ما يقرب من 19% من إجمالي سندات الخزانة الأميركية التي يملكها المستثمرون من بلدان العالم المختلفة خارج الولايات المتحدة، تليها اليابان برصيد 1.066 تريليون دولار في نهاية يناير/ كانون الثاني.
وبعد فرض الرئيس الأميركي تعرفات جمركية على واردات الصلب والألمنيوم، بواقع 25% و10% على التوالي، وتهديد بعض الدول في الاتحاد الأوروبي وجنوب شرق آسيا باتخاذ إجراءات مماثلة على وارداتها من الولايات المتحدة، تعاظمت المخاوف من نشوب حرب تجارية تتسبب في ركود اقتصادي عالمي.
وقد يكون أحد أهم أسلحة هذه الحرب هو توقف بعض البلدان، وتحديداً الصين واليابان، عن شراء سندات الخزانة الأميركية، أو التخلص مما يملكانه حالياً، وهما أكبر حائزين للسندات الأميركية، بنسبة لا تقل عن 35% من إجمالي ما يملكه الأجانب من هذه السندات.
وقال نائب وزير التجارة الصيني، وانغ شو وين، في كلمة ألقاها في نيودلهي، خلال اجتماع وزاري لمنظمة التجارة العالمية، في وقت سابق من مارس/ آذار الجاري، إن بلاده ستتخذ خطوات للحفاظ على مصالحها، وكذلك صناعاتها. ولوح ترامب بفرض رسوم تصل إلى 60 مليار دولار على منتجات التكنولوجيا والاتصالات الصينية. وسبق أن أعلن ترامب، في 8 مارس/ آذار، فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب و10% على الألمنيوم من دول العالم.
وتأتي المخاوف من التخلص من السندات الأميركية في وقتٍ تحتاج فيه خزانة الولايات المتحدة بشدة للطلب الخارجي على إصداراتها من السندات، خاصة مع تزايد التوقعات بحدوث ارتفاع كبير في عجز الموازنة، وما يتطلبه ذلك من التوسع في إصدار السندات.
وقال كيفين جيديس، مدير إدارة الدخل الثابت بأسواق رأس المال في شركة رايموند جيمس: "التوقيت سيئ جداً، حيث تحتاج الخزانة الأميركية إلى الأسواق الخارجية أكثر من أي وقت مضى، من أجل تعويض الإيرادات المفقودة بعد إقرار التخفيضات الضريبية الجديدة". وتشير التقديرات إلى أن التخفيضات الضريبية الجديدة ستضيع على الحكومة الأميركية حوالي 1.5 تريليون دولار على مدار الأعوام العشرة القادمة.
وقالت كريستينا هوبر، مديرة استراتيجيات الأسواق في شركة انفسكو، ومقرها نيويورك: "التهديدات حقيقية، ونحن نحتاج إلى طلب خارجي أكثر، لا أقل". ووافقها جيسون سيلينتي، كبير مديري المحافظ في شركة انسايت انفستمنت في نيويورك، وقال "ستكون رسالة شديدة الضغط على الإدارة الأميركية".
وتجاوز الدين العام الأميركي الأسبوع الماضي 21 تريليون دولار، وتعتبر أدوات الدين، ومنها سندات الخزانة، أداة الاستثمار الأكثر أماناً حول العالم، وعادةً ما تكون الاختيار الأول للبنوك المركزية والصناديق السيادية حول العالم عند توزيع استثمارات احتياطي النقد الأجنبي لديهم.
وتعتبر سندات الخزانة الأميركية معياراً هاماً جداً عند قياس أداء كافة أنواع الأصول في الولايات المتحدة وخارجها، كما تعتبر العامل الأكبر تأثيراً في تسعير كافة المنتجات الدولارية، أصولاً كانت أم التزامات، لدى البنوك والمؤسسات المالية الأخرى.
ولذلك فقد رأى محللون آخرون أن ابتعاد الدول عن السندات الأميركية هو أمر مستبعد إلى حد كبير، واعتبروا أن إجراء مثل هذا لا يضمن لتلك الدول الحصول على تنازلات تجارية من واشنطن.
وقال جاك ماكينتاير، مدير المحافظ في شركة برانديواين لإدارة الاستثمار العالمي بفيلادلفيا: "إنهم (هذه الدول) يمتلكون كميات كبيرة من هذه السندات. سيكون ذلك مماثلاً لإطلاقهم النار على أقدامهم".
ويملك شركاء الولايات المتحدة التجاريين مجتمعين أكثر من 25% من إجمالي السندات القائمة حالياً، وهو ما يمثل بالفعل تهديداً للاقتصاد الأميركي ككل، وليس لسوق السندات وحدها، لو فكروا في بيعها أو التوقف عن شرائها.
ويقول ويليام نيل، أستاذ الاقتصاد في جامعة ولاية نورث كارولينا: "لا يستطيع كل حاملي السندات من الأجانب أن يطلبوا فجأة من الخزانة الأميركية سداد قيمتها فوراً، حيث إن كل سند له تاريخ استحقاق، ومن الطبيعي أن تواريخ الاستحقاق تلك تكون موزعة على آجال مختلفة".
لكن نيل يضيف :" يحق لحملة السندات، أجانب كانوا أم محليين، أن يبيعوا تلك السندات في السوق الثانوية، ويتحدد السعر وفقاً للعرض والطلب"، وهو ما يعني أن الرغبة الشديدة في بيع كميات كبيرة من السندات بصورة فورية قد تتسبب في انخفاض أسعارها بصورة كبيرة.
ومن ناحية أخرى، أظهرت تقارير وزارة المالية اليابانية انخفاض صافي تعاملات اليابانيين في السندات العالمية، خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من فبراير/ شباط الماضي، دون أن تفصح عن وضعها في كل دولة على حده، لكن أغلب هذه السندات تكون أميركية، حيث حققت صافي بيع يقدر بحوالي 20 مليار دولار.
وأرجع المحللون ذلك إلى تزايد التوقعات بانخفاض قيمة العملة الأميركية، كنتيجة لسياسات ترامب الاقتصادية، وخاصة بعد تصريحات وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوشين في يناير/ كانون الثاني الماضي، والتي أكدتها تقارير اقتصادية صادرة عن البيت الأبيض، بأن "الدولار الضعيف يكون جيداً للولايات المتحدة (تجارياً)".
وقال ماساهيرو كاواجيشي، مسؤول الاستثمار بأدوات الدخل الثابت في شركة نيمورا لإدارة الأصول، المملوكة لبنك نيمورا العملاق: "إدارة ترامب تثير المخاوف من أن الدولار قد لا يظل العملة الرئيسية في العالم"، مضيفا أن "المحفظة التي تركز على الدولار لا تعد محفظة سليمة"، وأنه وفريقه يحولون استثماراتهم الآن إلى الهند وماليزيا. وباع اليابانيون خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، أكثر من ثلاثين مليار دولار من سندات الخزانة الأميركية.
وانخفض الدولار أمام الين الياباني أكثر من 5% في أول شهرين من العام الحالي. وقال كاواجيشي إنه لن يفكر في العودة لشراء السندات الأميركية "إلا بعد استقرار العائد عليها فوق 3%".
وسارت استثمارات الدول العربية في السندات الأميركية، لا سيما الخليجية، مع التوجه العام، حيث انخفضت هذه الاستثمارات أو ظلت على مستواها على مدار الأشهر الثلاثة السابقة.