الرهان على الحكومات العربية في مراعاة ظروف الطبقات الفقيرة والمعدومة، بات رهانا خاسراً، فهذه الحكومات تصرح علناً بأن برامجها الإصلاحية وخططها الاقتصادية تراعي ظروف ملايين الفقراء والطبقات الكادحة، لكن في الخفاء تتخذ قرارات وسياسات عنيفة وقاسية، منها الرفع المستمر لأسعار السلع والخدمات، وفرض مزيد من الضرائب والجمارك والرسوم، وخفض الدعم المقدم للسلع الرئيسية.
وهذه السياسات تؤدي في النهاية إلى إلقاء ملايين المواطنين في مستنقع الفقر المدقع والحياة اللاآدمية والسكن في المقابر والعشوائيات، وتعري كذلك الطبقات المتوسطة والمستورة، وتجعل من موظف الحكومة شخصاً يستحق زكاة المال والصدقات الجارية.
والرهان كذلك على صندوق النقد الدولي في علاج مشاكل الفقر والبطالة، وتوفير فرص عمل، وإنقاذ الاقتصاديات المتدهورة، هو نوع من السراب والذي يشبه إلى حد كبير بناء مبان شاهقة وبكلفة عالية على رمال متحركة أو على جرف هار.
لم يكتف صندوق النقد الدولي بالخراب الذي أحدثه داخل المنطقة العربية، من إرغام الحكومات، المتلهفة للاقتراض، على زيادة أسعار السلع الرئيسية، مثل السكر والأرز، ورفع أسعار الوقود (البنزين والسولار والغاز) وفواتير الكهرباء والمياه والرسوم الحكومية والضرائب، بل خرجت مديرة الصندوق كريستين لاغارد، أمس الأول السبت، لتحض هذه الحكومات على خفض رواتب موظفي الدولة والقطاع العام الذين تنتمي غالبيتهم للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وبالتالي بدلاً من أن ينتظر ملايين من موظفي الدولة زيادة رواتبهم وتحسين دخولهم وأحوالهم المعيشية التي وعدت بها الحكومات والصندوق معا عقب إطلاق الطرفين ما يسمى ببرامج الإصلاح الاقتصادي، ومساعدتهم كذلك على مواجهة موجات التضخم المستمرة، إذا بالصندوق يحض الحكومات على خفض رواتب هؤلاء الموظفين وتقليص المزايا المالية التي يحصلون عليها والتي تكفيهم بالكاد لمواجهة أعباء الحياة القاسية.
ولم تكتف لاغارد بذلك، بل دعت الدول العربية إلى خفض الدعم الحكومي الموجه لقطاع الطاقة، واستندت في دعوتها إلى أن كلفة دعم الطاقة في المنطقة مرتفعة، وتصل إلى نحو 4.5% كنسبة للناتج المحلي الإجمالي في البلدان العربية المصدرة للنفط، ونسيت أو تناست أن بعض الدول التي تخاطبها تعد من أكبر منتجي النفط والطاقة في العالم.
لم يكتف الصندوق بتحويل حكومات دول المنطقة إلى أداة لقهر الشعوب ماديا ومعنويا، وتحويل هذه الحكومات من صانع للقرارات الاقتصادية المفيدة للمواطن إلى مجرد منفذ لسياساته المدمرة للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
ولم يكتف الصندوق بإرغام الحكومات على تبني خطط عنيفة لخفض عدد العاملين بالجهاز الإداري بالدولة، ولم يكتف بإرغام الحكومات على وقف تعيين ملايين الشباب من خريجي الجامعات والمعاهد.
ولم يكتف بالدمار الذي أحدثه في مدخرات المواطنين حينما أجبر الحكومات على تعويم عملاتها المحلية.
ولم يكتف الصندوق بإرغام الحكومات على التوسع في الاقتراض الخارجي، بل راح يسكب البنزين على النار بمطالبته بخفض رواتب موظفي الدولة واستكمال سياسة زيادة أسعار الوقود، وكأنه يريد إشعال المنطقة وتحويلها لمنطقة ساخنة وبؤرة توتر مستمرة.
هل سمعت يوما أن صندوق النقد يوجه انتقادات للحكومات العربية على توسعها في الإنفاق على شراء الأسلحة وتخصيص ثلث الموازنة لبند واحد هو الأمن والدفاع؟
هل ضغط الصندوق يوما لتقليص المخصصات المالية الضخمة التي تحصل عليها الأسر الخليجية الحاكمة من الموازنات العامة وعائدات النفط ولا تتناسب مطلقا مع عددها المحدود؟
هل طالب الصندوق بوقف الإنفاق على شراء الطائرات الرئاسية وتوجيه موارد الدولة المحدودة على مشروعات ضخمة لا يحتاجها الاقتصاد ولا تمثل قيمة مضافة له مثل العاصمة الإدارية الجديدة في مصر وتفريعة قناة السويس؟
لم نسمع، بل سمعنا فقط مطالبات برفع الأسعار وخفض الرواتب المحدودة وفرض مزيد من الضرائب على طبقة الموظفين، فالصندوق قوي على الفقراء ضعيف أمام الحكومات.
المراهنون على إنقاذ الصندوق للطبقات الفقيرة مثل المراهنين على نجاح الحكومات العربية في مكافحة الفساد وتوفير فرص عمل لملايين الشباب الذين ثاروا في العام 2011 من أجل الحرية والعدالة والاجتماعية، وبالتالي يجب ألا نصدق مسؤولي الصندوق حينما يخرجون علينا بتصريحات تطالب الحكومات بمراعاة الطبقات الفقيرة والمعدمة.
الصندوق والحكومات وجهان لعملة قبيحة، والإثنان أداة لقهر الشعوب وليس إسعادها أو التخفيف عنها كما يزعمون، أداة لإغراق الدول العربية في الفقر والبطالة والفوضى المالية وعجز الموازنات والارتهاب للغرب ومؤسساته المالية.