التجربة البرازيلية

06 يونيو 2018
المكاسب الاقتصادية المحققة كانت أقل من وعود تامر(فرانس برس)
+ الخط -


في عام 2016 أصبح ميشال تامر في سن السابعة والسبعين، رئيساً للبرازيل، خلفاً لديلما روسيف، التي تم عزلها من منصبها، على خلفية اتهامها بسوء السلوك الإداري الجنائي وتجاهل الميزانية الفيدرالية، في انتهاك لدستور البرازيل وقانون المسؤولية المالية.

أشارت بعض التقارير إلى أن تامر خطط لعزل الرئيسة السابقة، ومن باب الاحتياط فقد أرسل لروسيف قبل بدء التحقيقات معها بعض الرسائل المكتوبة، التي حاول فيها تأكيد قيامها بإبعاده عن المشاركة في اتخاذ القرارات، وكأنه يمهد الطريق للتحقيقات، وفي نفس الوقت ينأى بنفسه عن التورط فيها.

كما تم تسريب بعض الاتصالات الهاتفية التي قام بها أثناء سير التحقيقات، والتي سجلت تعامله مع بعض الجهات على اعتبار أن العزل قد تم وأنه أصبح الرئيس الجديد للبرازيل.

بعد وصوله للرئاسة، وعد تامر الشعب البرازيلي بجذب الاستثمارات الأجنبية وإنعاش الاقتصاد الذي كان يعانى أسوأ ركود في تاريخه. إلا أن المكاسب الاقتصادية التي حققها كانت قليلة مقارنةً بما وعد به، كما أدت أغلب المشاريع التي دفع بها إلى تبديد مليارات الدولارات، وكانت من النوعية التي لا تؤتي ثمارها إلا بعد حين، في وقتٍ كان شعبه يئن تحت وطأة الضغوط الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى تدني شعبيته، حتى أن نسبة الرضاء عن أدائه وصلت إلى 7%.

وبعد توليه المنصب بحوالي ستة أشهر، قرر تامر اتخاذ بعض القرارات التي نصحه بها مستشاروه، فيما أطلقوا عليه "إصلاحاً مالياً"، وكان أحد أبرز هذه القرارات هو رفع الدعم عن الوقود، وتحديد سعره بصورة يومية وفقاً للتكلفة، بواسطة شركة بتروبراس المملوكة للدولة، والتي حامت شبهات فساد حول العديد من الأشخاص ذوي الصلة بها. 

ومع ارتفاع أسعار البترول في السوق العالمية خلال الفترة الأخيرة، وتزامنه مع انخفاض قيمة الريال البرازيلي، ارتفعت أسعار الوقود بصورة فاقت قدرات احتمال البرازيليين، الذين يشبهون المصريين في هوسهم بكرة القدم وكرههم لغلاء الأسعار.

لم يستسغ أغلب أفراد الشعب، وخاصة من الطبقة المتوسطة، الارتفاعات المتتالية في أسعار الوقود مع الانخفاض في قيمة العملة المحلية في ثامن أقوى اقتصاد في العالم، خاصة مع علم أغلب أفراد الشعب بحجم الفساد المستشري هناك، والذي قدره هشامو دي جونينا البرازيلي بحوالي 41 مليار دولار سنوياً، ولم يتهمه أحد بنشر أخبار كاذبة!


ومع تجاهل الحكومة غضب الشعب، بدأ سائقو الشاحنات إضراباً قبل أسبوعين، في الدولة صاحبة خامس أكبر مساحة على مستوى العالم، والتي تعتمد على النقل البري بصورة أساسية في نقل أغلب البضائع.

طوقت الشاحنات الشوارع الرئيسية بمدينة ساوباولو، التي تعتبر العاصمة الاقتصادية للبلاد، مما أدى إلى إغلاق العديد من المصانع، وتسبب في تعطل القطاع الزراعي الذي يمثل أهمية خاصة للدولة.

وقالت اتحادات المزارعين إن ملايين الدجاجات نفقت لعدم وصول غذائها، وإن أطناناً من الحليب قد فسدت لعدم توفر مبردات التخزين. وأدى استمرار الإضراب أيضاً إلى نفاد الوقود من عشرات المطارات، وإيقاف الدراسة في ثلاث عشرة جامعة حكومية، وتقليل عدد حافلات نقل الركاب في كبرى المدن البرازيلية، وتأجيل العمليات غير العاجلة في أغلب مستشفيات مدن الجنوب، خاصة بعد انضمام سائقي سيارات أوبر وحافلات نقل طلاب المدارس للاضراب.

واضطرت قوات الجيش والشرطة لمرافقة شاحنات الوقود للتأكد من وصولها إلى المحطات، من أجل توفير الوقود لحافلات النقل العام وعربات جمع القمامة.

وتسبب الإضراب أيضاً في خسائر جسيمة لشركة البترول بتروبراس، التي تمتلك الحكومة، بصورة مباشرة وغير مباشرة، حوالي 64% منها، وفقد سهمها حوالي 40% من قيمته، وهو ما يعني أن الشركة فقدت حوالي 45 مليار دولار من قيمتها السوقية (أكثر من احتياطي النقد الأجنبي المصري عند أعلى مستوى له في تاريخه بالاقتراض) خلال الأسبوعين الماضيين، وبعد تسجيل أعلى مستوى له في ما يقرب من أربع سنوات. وقالت الحكومة البرازيلية إنها ستعوض الشركة عن تلك الخسائر!

استمرت أسعار الفاكهة والخضروات في الارتفاع، وعلت الأصوات بالشكوي من نقص الأطعمة والوقود والأدوية. كما أُغلِقت المدارس، وطُلِب من الموظفين العمل من منازلهم. وفي محاولة لانقاذ البلاد من الشلل، استجاب الرئيس البرازيلي لطلبات سائقي الشاحنات، فتراجع عن استدعاء الجيش لفض الإضراب، وفي خطاب متلفز قبل أسبوع قال تامر "لقد أعطيناهم كل ما طلبوا".

اضطرت الحكومة البرازيلية لتخفيض سعر الوقود بنسبة 12%، وقررت تثبيت سعره لمدة ستين يوماً، على أن يتم تعديله بعد ذلك مرة واحدة في الشهر، بعد أن تسبب تغييره كل يوم وفقاً للسعر العالمي في حدوث الإضراب. كما فرضت الحكومة حداً أدنى لتكلفة استخدام الشاحنات، وأعفت العربات غير المستخدمة من الشاحنات من تكلفة استخدام الطرق السريعة في كافة أنحاء البرازيل.

ورغم كل تلك التنازلات التي قدرت الحكومة البرازيلية تكلفتها خلال العام الحالي فقط بحوالي 2.6 مليار دولار، إلا أن أغلب سائقي الشاحنات مازالوا متمسكين بالإضراب طمعاً في المزيد من المكاسب. وقال فيسنت ريس، أحد قادة رابطة السائقين المستقلين "لم يعد هدفنا تخفيض سعر وقود الديزل فقط. لقد كسبنا تعاطف المجتمع، ونرغب الآن في الأشياء الأخرى".

لم تنته الدراما البرازيلية، فمازالت فصولها تعرض على العالم، لكن الحكومة أدركت أن الإصلاح المالي لابد أن يأخذ في الاعتبار مستويات الدخل في البلاد، وأنه لا يمكن أن يتم على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة وحدها، وأن أولى خطواته لابد أن تكون باتجاه القضاء على الفساد، خاصة أن الأرقام تشير إلى أن تكلفة فساد ستة أشهر فقط تفوق المبلغ المطلوب لدعم كافة أنواع الوقود في عامٍ كامل.

المساهمون