أحداث لبنان الدامية، والتي فجّرتها أزمة الدولار والدولرة، أتت نتيجة أحداث سياسية. ولقد عُرف حاكم مصرف لبنان المركزي، رياض سلامة، بأنه محافظ بارع، طويل الخدمة والتجربة، ومُعترفٌ له بذلك.
وقد آثر، مدة طويلة، أن يجمع أرصدة بالعملات القابلة للتحويل والذهب على أن يستخدمها في سداد الديون. وبعدما تخطى الدَين العام 89 مليار دولار بنهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019، تجاوزت موجودات المصرف المركزي 141 مليار دولار، بحلول منتصف شهر يناير/كانون الثاني 2020.
وبالطبع، أحدث نضوب مصادر التمويل الخارجي للبنان، والمتأتية عن السياحة والتصدير والاستثمارات الخارجية وحوالات اللبنانيين العاملين في الخارج والمساعدات المباشرة، خصوصا من دول الخليج، أحدث تشويشاً في التوازن.
وقد أدى ذلك إلى تجفيف مصادر المال العام المتاح للموازنة، وعزّز ذلك ما يُشاع عن حجم الفساد وانتشاره من السياسيين والموظفين العامّين، ما أدى إلى خلخلة الوضع الاقتصادي برمته. وصارت التنبؤات المتشائمة عن تطور الأمور في المستقبل محققة لذاتها.
ومن السذاجة أن ننكر أن حقيقة ما يجري في لبنان له أبعاد سياسية، فالمظاهرات في إيران كانت احتجاجاً على مدى ما يتحمّله المواطن من أذى وعسرة في حياته، وأن قلوب الآباء وجوع الأطفال، إن طال أمدهما، سيتغلبان على النزعات الوطنية المطالِبة بمزيدٍ من الصبر.
ولما تبيّن أن الإدارة الأميركية أرادت استثمار ذلك في إضعاف سرايا القدس قتلت قائدها. وها هم في الغرب ينعون جهوده مع الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، خصوصا الحركات السنية منه.
وكذلك، بات واضحاً أن المظاهرات في العراق كان وراءها شيعة عرب، يرون في قوة الحشد الشعبي الموالي لإيران تهديداً لنفوذهم. وتبين من المظاهرات أن إيران ليست منفردة في نفوذها داخل العراق، بل إن للأميركان وحلف شمال الأطلسي (الناتو) نفوذاً موازياً.
وإذا كان لبعض المتظاهرين في لبنان نيات من أجل تقليم نفوذ حزب الله، فهذا يعني أن الجهات الدولية التي أعطت إيران والمنظمات التابعة لها فرصة للنمو بقصد زرع الفتنة بين السنة والشيعة، قد رأت أن الدور قد أتى على إيران، لكي يتقلص نفوذها.
اقــرأ أيضاً
ولكن الدول العربية ليست غريبة على الأزمات المالية والمصرفية، ومنذ عام 1967، أي بعد حرب الأيام الستة، وما نتج عنها من احتلال أراضٍ في ثلاث دول عربية، والهيمنة على كامل الأرض الفلسطينية، رأينا نكبة بنك إنترا، ثم الأزمة المصرفية للبنوك الأردنية بعد احتلال الضفة الغربية من الأردن، وشهدنا أزمة سوق "المناخ" في الكويت، وأزمة بنك البتراء في الأردن وما صاحبها من هبوط حاد عام 1989 في سعر صرف الدينار الأردني.
ورأينا إبّان الربيع العربي انهياراً في عملات دول كثيرة، مثل الجنيه السوداني، والدينار الجزائري، والجنيه المصري، والليرة السورية، والدينار العراقي بعد حرب الخليج الأولى 1991 وحرب الخليج الثانية في العام 2003، وسقوط الريال اليمني، وأزمات أخرى لا تسعفنا الذاكرة بإيرادها كلها في هذه اللحظة.
ويبدو أن للدول العربية في الوقت الحاضر ذاكرة قصيرة الأجل في استحضار هذه الأزمات، واستنباط الدروس منها، ونحن في أمسّ الحاجة إلى الانتباه إلى التغير الثوري المتوقع في نظام العالم النقدي، والانتقال إلى المصارف الذكية، وفي هيمنة ثلاث منصات أو أربع إلكترونية دولية على كل المعاملات النقدية في العالم.
لقد صار تشويش النظام النقدي لأي دولة هو الوسيلة الأرخص كلفةً والأكثر فاعليةً في هذا الزمن العجيب. وأمامنا شواهد كثيرة على ذلك، فما الذي دمر عملة الأرجنتين خلال عامي 2018 و2019، وكذلك فنزويلا، وغواتيمالا، وتركيا وغيرها، قبل أن تتمكّن دولة واحدة، وهي تركيا، من استعادة التوازن النقدي والمصرفي فيها.
وقد رأينا أن أسواق المال يمكن التلاعب بها إما بالبيع والشراء السريع غير المتوقع من صانعي الأسواق، (market makers) أو حتى عن طريق التلاعب السياسي، إما بالتوتير أو التهدئة، وبعضنا يتذكّر ما جرى في بورصات الصين الثلاث، حيث تراجعت خلال عام 2018 بنسبٍ وصلت 7% في يوم واحد.
اقــرأ أيضاً
ما يقع في لبنان حالياً، وفي العراق وليبيا، ليس مصادفة، بل هو مخطط له. ولقد توفرت الآليات والوسائل والإمكانات التي تجعل أمراً كهذا قابلاً للحصول. ولن يقف الأمر عند هذا الحد. بل إن الأمن السيبراني الذي تسعى دول ومؤسسات كبرى للحصول عليه بمبالغ طائلة، يعطي الفرصة لمالكي البرامج الأمنية ومطوّريها أن يخلقوا ما يشاؤون من فوضى لمن يخالفونهم أو يتحدونهم. ومن يملك القدرة العالية على توفير الأمن السيبراني هو نفسه القادر على اختراقه وإقلاق راحة من يبحث عنه.
رأينا أن النظام المصرفي العربي، ومعه النظام العالمي، حريصٌ كل الحرص على عدم السماح بانهيار المصارف، بسبب أثر الدومينو الذي يحدثه أمرٌ كهذا، فبعد اختلال النظام المصرفي في أيسلندا، وسقوط "بيرز بانك" بسبب تهوّر أحد المستثمرين، وقرب بنوك كبرى، مثل سيتي غروب "وبنك سانْتا في" في الولايات المتحدة الأميركية من الانهيار، قبيل الأزمة المالية عام 2008، ازداد الإصرار على منع البنوك من أن تنهار.
الوضع في لبنان خطير. ولكن إجراءات مصرف لبنان المركزي المصرّة على عدم السماح للبنوك بالانهيار، خصوصا أنها متورّطة في ديونٍ للحكومة بالمليارات، لها كلفة عالية على حياة المواطن اللبناني، ورفاهيته واستمتاعه بأبسط الحاجات الأساسية.
العراك الآن بين ألم في المدى القصير لتجنب أذى وألم أكبر في المستقبل لن يكون سهلاً. ولكن الدول العربية بدون استثناء مرشّحة لما يسمّى فحص "خيار الوقت" بين إطفاء نار عاجل أو حريق مستقبلي هائل. وكان الله في العون.
إنْ تجاوزنا هذا الامتحان بإدارةٍ حصيفة، فإننا مرشحون لمستقبل أفضل بكثير من الواقع المرير راهناً.
ولما تبيّن أن الإدارة الأميركية أرادت استثمار ذلك في إضعاف سرايا القدس قتلت قائدها. وها هم في الغرب ينعون جهوده مع الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، خصوصا الحركات السنية منه.
وكذلك، بات واضحاً أن المظاهرات في العراق كان وراءها شيعة عرب، يرون في قوة الحشد الشعبي الموالي لإيران تهديداً لنفوذهم. وتبين من المظاهرات أن إيران ليست منفردة في نفوذها داخل العراق، بل إن للأميركان وحلف شمال الأطلسي (الناتو) نفوذاً موازياً.
وإذا كان لبعض المتظاهرين في لبنان نيات من أجل تقليم نفوذ حزب الله، فهذا يعني أن الجهات الدولية التي أعطت إيران والمنظمات التابعة لها فرصة للنمو بقصد زرع الفتنة بين السنة والشيعة، قد رأت أن الدور قد أتى على إيران، لكي يتقلص نفوذها.
ورأينا إبّان الربيع العربي انهياراً في عملات دول كثيرة، مثل الجنيه السوداني، والدينار الجزائري، والجنيه المصري، والليرة السورية، والدينار العراقي بعد حرب الخليج الأولى 1991 وحرب الخليج الثانية في العام 2003، وسقوط الريال اليمني، وأزمات أخرى لا تسعفنا الذاكرة بإيرادها كلها في هذه اللحظة.
ويبدو أن للدول العربية في الوقت الحاضر ذاكرة قصيرة الأجل في استحضار هذه الأزمات، واستنباط الدروس منها، ونحن في أمسّ الحاجة إلى الانتباه إلى التغير الثوري المتوقع في نظام العالم النقدي، والانتقال إلى المصارف الذكية، وفي هيمنة ثلاث منصات أو أربع إلكترونية دولية على كل المعاملات النقدية في العالم.
لقد صار تشويش النظام النقدي لأي دولة هو الوسيلة الأرخص كلفةً والأكثر فاعليةً في هذا الزمن العجيب. وأمامنا شواهد كثيرة على ذلك، فما الذي دمر عملة الأرجنتين خلال عامي 2018 و2019، وكذلك فنزويلا، وغواتيمالا، وتركيا وغيرها، قبل أن تتمكّن دولة واحدة، وهي تركيا، من استعادة التوازن النقدي والمصرفي فيها.
وقد رأينا أن أسواق المال يمكن التلاعب بها إما بالبيع والشراء السريع غير المتوقع من صانعي الأسواق، (market makers) أو حتى عن طريق التلاعب السياسي، إما بالتوتير أو التهدئة، وبعضنا يتذكّر ما جرى في بورصات الصين الثلاث، حيث تراجعت خلال عام 2018 بنسبٍ وصلت 7% في يوم واحد.
رأينا أن النظام المصرفي العربي، ومعه النظام العالمي، حريصٌ كل الحرص على عدم السماح بانهيار المصارف، بسبب أثر الدومينو الذي يحدثه أمرٌ كهذا، فبعد اختلال النظام المصرفي في أيسلندا، وسقوط "بيرز بانك" بسبب تهوّر أحد المستثمرين، وقرب بنوك كبرى، مثل سيتي غروب "وبنك سانْتا في" في الولايات المتحدة الأميركية من الانهيار، قبيل الأزمة المالية عام 2008، ازداد الإصرار على منع البنوك من أن تنهار.
الوضع في لبنان خطير. ولكن إجراءات مصرف لبنان المركزي المصرّة على عدم السماح للبنوك بالانهيار، خصوصا أنها متورّطة في ديونٍ للحكومة بالمليارات، لها كلفة عالية على حياة المواطن اللبناني، ورفاهيته واستمتاعه بأبسط الحاجات الأساسية.
العراك الآن بين ألم في المدى القصير لتجنب أذى وألم أكبر في المستقبل لن يكون سهلاً. ولكن الدول العربية بدون استثناء مرشّحة لما يسمّى فحص "خيار الوقت" بين إطفاء نار عاجل أو حريق مستقبلي هائل. وكان الله في العون.
إنْ تجاوزنا هذا الامتحان بإدارةٍ حصيفة، فإننا مرشحون لمستقبل أفضل بكثير من الواقع المرير راهناً.