مع أول ضربة لفيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) للأسواق الأميركية، شمر مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" عن ساعده، وأعلن تدخله بمنتهى القوة في الأسواق، مخصصاً ما يقرب من ستة تريليونات دولار لمساعدة مؤسسات الإقراض على الاستمرار في منح القروض للشركات والأفراد، كما الحفاظ على السيولة في أسواق الأسهم والسندات.
ولم تتأخر وزارة الخزانة الأميركية أيضاً، حيث حصلت على موافقة الكونغرس على تخصيص 2.3 تريليون دولار، تم إنفاق أغلبها في صورة مدفوعات نقدية وتعويضات بطالة للأسر الأميركية، لتعويضها عن فقدان مصدر دخلها مع "الإغلاق الكبير"، وقروض للشركات الصغيرة لتشجيعها على الاحتفاظ بالعمالة لديها رغم توقف أعمالها وإيراداتها، بالإضافة إلى بعض القروض الموجهة للشركات الكبيرة، ذات الأهمية للاقتصاد الأميركي، لمساعدتها على تجاوز الأزمة.
ورغم الانقسام السياسي الواضح في واشنطن، كان هناك شبه إجماع من خبراء الاقتصاد في المعسكرين، ومن مختلف المدارس الاقتصادية، على عدم الالتفات إلى ما يسببه هذا الإنفاق الحكومي الضخم غير المخطط، من اتساع عجز الموازنة، الذي تشير التقديرات إلى وصوله لأكثر من 3.7 تريليونات دولار، بنهاية العام المالي الحالي.
ومع إقرار مجلس النواب لحزمة إضافية، بمبلغ 3 تريليونات دولار، يُوجه أغلبها لصرف دفعة جديدة من المساعدات النقدية المباشرة للأسر الأميركية، كما مد الحد الأقصى لفترات صرف تعويضات البطالة، أصبح تزايد عجز الموازنة حتمياً، حتى في حالة إصرار مجلس الشيوخ على تخفيض قيمة الحزمة.
تركز اهتمام الحكومة الأميركية، وقيادات الكونغرس من الحزبين، خلال الأزمة، على توفير الأموال المطلوبة لإنقاذ المواطنين، ومساعدتهم على دفع إيجارات وفواتير منازلهم، كما توفير حد أدنى من المال اللازم للإنفاق على حاجياتهم الأساسية من الطعام.
تراجعت الاعتراضات على تزايد الاقتراض الحكومي، رغم وصول الدين الأميركي إلى مستويات قياسية، متجاوزاً 24 تريليون دولار، وبنسبة تتجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك لإدراك الجميع أن أغلب تلك المبالغ سيتم توجيهها للمواطن الأميركي، المتضرر من جائحة الفيروس والجهود الهادفة للحد من انتشاره، والتي تسببت في فقدانه لوظيفته مع الإغلاق الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة والعالم.
نفس الموقف واجهته اقتصادات كبرى في كندا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي واليابان والصين وغيرها من دول العالم، وكان المبرر المقبول للتوسع الرهيب في الاقتراض هو إنقاذ المواطنين الذين توقفت أو تراجعت مدخولاتهم بسبب الأزمة.
وفي مصر، تعهدت الحكومة بتخصيص مبلغ مائة مليار جنيه مصري (حوالي 6.33 مليارات دولار)، لمواجهة تداعيات الجائحة، في تعبير مطاطي مبهم لم يتم ذكر إلا القليل من تفاصيله، التي جاء على رأسها توجيه خُمْسه " 20 مليار جنيه" لشراء أسهم في البورصة!
وفي حين غابت عن المواطنين، وربما عن الوزراء، أغلب أوجه إنفاق ما تبقى من المبلغ المخصص، تم الإعلان عن صرف 500 جنيها (32 دولاراً) شهرياً، لمدة ثلاثة أشهر، لما يقرب من مليوني عامل "يومية" ممن يعملون في الاقتصاد غير الرسمي، بقيمة إجمالية لا تتجاوز 190 مليون دولار.
ورغم الاعتراضات السابقة على اتفاق قرض صندوق النقد الدولي السابق، الذي حصلت مصر بمقتضاه على 12 مليار دولار على مدار ثلاث سنوات، واضطرت في المقابل إلى تحرير سعر عملتها المحلية، لتفقد أكثر من 60% من قيمتها أمام الدولار في غضون شهور معدودة، وإلغاء الدعم على المياه والكهرباء والوقود والغاز وأغلب الغذاء، كما زيادة الضرائب، هرعت الحكومة المصرية إلى صندوق النقد مرة أخرى، لتحصل على قرض جديد، بمبلغ 2.772 مليار دولار، مع وعد من الصندوق بتدبير قرضين آخرين، أحدهما من الصندوق، والآخر من خارجه، بقيمة إجمالية تصل إلى 9 مليارات دولار.
أعلم جيداً أن موارد مصر من العملة الأجنبية تعرضت لهزة شديدة بسبب الجائحة، وأن إيرادات السياحة وقناة السويس والاستثمار غير المباشر وجزءا من تحويلات العاملين بالخارج تأثرت، وأن عجز الحساب الجاري المصري معرض للارتفاع بصورة كبيرة.
ومع ذلك أرى أن توجه الحكومة للاقتراض الخارجي يتعارض بصورة كبيرة مع ادعاءات نجاح الإصلاح الاقتصادي في مصر، وارتفاع احتياطي النقد الأجنبي، ووقوف الاقتصاد على أرضية صلبة تمكنه من مواجهة الأزمات، وهي الادعاءات التي لم تتوقف الآلة الإعلامية الداعمة للحكومة المصرية عن التأكيد عليها مع طلعة كل شمس، رغم ملاحظة ارتفاع الدين الخارجي المستمر، وتأكيدنا في أكثر من مناسبة على التزايد المزعج لاعتماد الاقتصاد المصري على الدعم الخارجي.
التوسع في الاقتراض الذي أقرته أغلب المجالس التشريعية في دول العالم كان مبرراً بتوجيهه لإنقاذ الملايين من آثار الجائحة، وتوفير حد أدنى من الدخل لمن فقدوا وظائفهم.
أما الاقتراض الموجه لسد العجز في الحساب الجاري وميزان المدفوعات، مع منح المواطنين بعض الفتات، أو تركهم لمواجهة مصيرهم مادياً وصحياً، فلا يمكن التعامل معه بهذه السطحية.
اعتبار كل عام "عنق زجاجة" جديدة، نلهث فيه للاقتراض لحل الأزمة الملحة، ثم نجلس لنحتفل بعد الحصول على القرض وسد التزاماتنا الخارجية، في انتظار عام جديد وأزمة جديدة، لا يعبر إلا عن سوء إدارة واضح، ولا يمكن أن يتصور عاقل استمراره إلى ما لا نهاية.