الفقر يلوح في الأفق بالسعودية

30 يوليو 2018
الفقر يتزايد في بلد النفط (Getty)
+ الخط -


للوهلة الأولى عند تَصفُّح قواعد البيانات الوطنية والدولية عن الفقر في السعودية  والتي تنعدم، يعتقد المرء أنه لا وجود للفقر تماما في هذا البلد الغني بالنفط والمنتعش بالسياحة الدينية التي تدرّ عليه مليارات الدولارات سنويا.

لكن الواقع المرّ مناقض تماما لتلك الصورة البرّاقة والتي تتفنَّن في رسمها كل مرة الجهود الكبيرة التي تبذلها الحكومة  في تحسين صورتها دوليا والإخفاء المحكم لآفة الفقر.

فالفقر ليس موجودًا فحسب، بل هو مُتفشٍّ بسبب الفجوة الواسعة بين طبقة الصفوة وباقي المواطنين البسطاء في المملكة، وتتحمّل البطالة جزءا كبيرا من المسؤولية عن الفقر الذي تسلّل إلى المجتمع. 

لقد رُفع الستار عن الأحياء التَّعيسة المختبئة وراء القصور الفارهة، وكشّر الفقر عن أنيابه في السعودية مع ارتفاع عدد السكان الذي وصل إلى 32.5 مليون نسمة سنة 2017، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة.

وتفيد إحصائيات منظمة العمل الدولية  بأن البطالة تتفشَّى وسط الشباب، لاسيَّما الإناث منهم، فقد بلغ معدل البطالة للفئة العمرية (15-24 سنة)، حسب تقديرات المنظمة، 25% في 2017، وقُدِّر بين الذكور لنفس الفئة العمرية الشابة بـ 18.4%، مقابل النسبة الصارخة للإناث والمقدّرة بـ 46.9%، وتشير كل هذه الأرقام إلى أن درجة البؤس ستستمرّ في الارتفاع خلال السنوات القادمة.

ينهش الفقر تلك الأسر التي تفتقد إلى معيل، وكذا المطلقات والأرامل اللواتي يتدبّرن أمر أطفالهن، ويرجع السبب الرئيسي لبطالة النساء إلى القيود الصارمة التي تفرض موافقة ولي الأمر للعمل والتنقل، وإلى قلة الوظائف المتاحة للنساء السعوديات الأميّات وذوات المستوى التعليمي المتدنّي.

وينعكس فقر أولئك النساء حتما على حرمان أطفالهن من أهم حق وهو التعليم، حيث تظهر أحدث البيانات التي نشرها البنك الدولي أن 80.2 ألف طفل لم يلتحقوا بالمدارس الابتدائية سنة 2014، وارتفع عددهم كثيرا مقارنة بـ 68.3 ألف طفل سنة 2013، وكل تلك العوامل سمحت بسقوط العديد من المواطنين في براثن الفقر المدقع.

ورغم انعدام إحصائيات ملموسة عن معدل الفقر في السعودية، حذّر البنك الدولي، المملكة من خطورة ارتفاع نسب الفقر في السنوات القادمة، وذلك في تقريره "الآفاق الاقتصادية للسعودية" الصادر في 16 إبريل/نيسان 2018، وترجع الأسباب إلى ارتفاع عدد السكان، وعدم كفاية الفرص الاقتصادية المتاحة للمواطنين، ولاسيَّما احتمال بقاء أسعار النفط عند مستوياتها المنخفضة خلال السنوات المقبلة، الأمر الذي يهدّد استمرارية العقد الاجتماعي القديم الذي يقوم على ولاء المواطن مقابل التوظيف الحكومي والدعم السخي ومجانية التعليم والخدمات. 

لا تتمتع شريحة معتبرة من السعوديين بالمهارات الكافية والمستوى التعليمي الجيد المطلوب للحصول على وظائف جيدة. وزاد الطين بلّة تدني أجور العمال الأجانب، وكل ذلك يشكل عاملا حاسما في شُحّ فرص العمل أمام السعوديين، ويسهّل انزلاقهم في دائرة الفقر.

ورغم الإنفاق الحكومي الكبير لتوفير خدمات تعليمية ورعاية صحية وبنية تحتية أفضل، تأبى رقعة الفقر إلا أن تتّسع في بلد يعد أكبر منتج ومُصدِّر للنفط في العالم، وذا مكانة رائدة في مجال إرسال المساعدات الإنسانية والإغاثة وعقد الصفقات الخيالية كشراء أسلحة بـ 110 مليارات دولار من أميركا.

ويكمن حلّ هذه المفارقة من جهة في الكيفية التي يتم من خلالها توزيع الثروات الهائلة الآتية من تصدير النفط الذي يمثل أكثر من 80% من إيرادات المملكة، والتي أدّت إلى تركز الثروات في أيدي الأقليّة، ومن جهة أخرى في تركيز النظام على دعم المناطق المركزية والرئيسية في البلد على حساب مناطق أخرى كالشرقية والجنوبية الغربية والريفية منها، مما أدّى إلى نمو غير متوازن وتنمية متفاوتة وتناقضات صارخة بين فقر مطلق وثراء فاحش في المملكة.

ونظراً للإجماع العالمي على استحالة الحصول على معدل الفقر في السعودية، ومن دون قصد جاء "حساب مواطن" للكشف عن ملامح الفقر في السعودية وكسر عدم الشفافية المتعمّدة لإخفائه، وخصّصت الحكومة هذا الحساب للتخفيف من الأثر السلبي للإصلاحات الاقتصادية، من خلال التعويض المالي للمواطنين ذوي الدخل المحدود، عن رفع أسعار الكهرباء والبنزين والمواد الغذائية.

وكشف هذا الحساب الذي دخل حيّز التنفيذ في ديسمبر/كانون الأول 2017 عن أنّ عدد المستفيدين منه بلغ 12.5 مليون شخص في يونيو، و11.9 مليون شخص في يوليو 2018، وتجاوز الدعم المالي المخصّص لهذا الحساب لحد الآن 18 مليار ريال، أي ما يعادل 4.8 مليارات دولار. 

ويجب الإشارة إلى أنّ التسجيل في هذا الحساب يتم عبر الإنترنت، وبذلك فهو يقصي الأسر الفقيرة، لاسيَّما في القرى النائية، التي لا تفتقد فقط لخدمة الإنترنت بل للكهرباء أيضا، وماذا عن تلك الفئة المُهمَّشة كليّا والمتمثلة في عديمي الجنسية غير المعترف بهم كمواطنين سعوديين، رغم أنهم ولدوا في المملكة وينحدر أغلبهم من القبائل البدوية، والذين قدَّرتهم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بـ 70 ألف شخص سنة 2017.

كل هذا يعطينا تصوراً حقيقياً للفقر الذي كان محجوبا بشكل جيّد طيلة السنوات الماضية، ويجب التذكير بأنّ زوجات العمال من الطبقة المتوسطة الواسعة، كما بيّن لنا هذا الحساب، هم أكثر عرضة للفقر في السنوات القادمة.

أول خطوة في طريق الحدّ من الفقر هي الاعتراف بحجمه وكسر السكوت عنه، حتى تتشكَّل الرؤى اللازمة لوضع السياسات الملائمة، بالإضافة إلى محاربة الفساد باستعمال كل الوسائل الردعية، وكذا الاستثمار في خلق فرص عمل للشباب، والتخفيف من القيود الصارمة التي تحرم ﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﺍﻟﺴﻌﻭﺩﻴﺔ من الانخراط في سوق العمل.

لا توجد أعذار لبقاء الفقر في دولة مثل السعودية، التي تسبقها سمعتها في مجال تقديم التبرّعات والمساعدات الإنسانية، لذلك يتوجّب على السلطات المعنِيّة الخروج من المكاتب المُكيَّفة والتوجّه للأحياء الفقيرة، من أجل التوصُّل إلى حلول تتطابق مع خصائص المجتمع، والابتعاد قدر الإمكان عن تطبيق حلول مستنسخة من تجارب دول أخرى، فالقفر الذي ينهش الشوارع يخفي وراءه مشاكل سلوكيّة ناتجة عن التأثُّر بنمط عيش الأغنياء وتقليد سلوكهم، لذلك يجب على الحكومة أن تعالج الأسباب السلوكيّة التي تقف وراء انتشار الفقر.

وعادي جداً أن تجد في الشارع أنّ هناك العديد من العائلات التي لا تمتلك منازلها، بينما تنفق التبرّعات التي تحصل عليها في اقتناء أحدث أنواع الهواتف.

لهذا يجب أن تركّز البرامج الحكومية الهادفة إلى الحد من الفقر على الجانب النفسي والاجتماعي للفقر، وبالتالي يكمن حلّ معضلة الفقر في غرس القيم والسلوكيات الجيدة في الأجيال القادمة من الشباب، وتنمية حرصهم على التسيير الجيّد لمداخيلهم وتوعيتهم بأهمية تحديد أولوياتهم الحقيقية، وكل ذلك من خلال النظام التعليمي.

وينبغي على الحكومة بذل المزيد من الجهود لتطوير التعليم وتحسين مخرجاته وسدّ فجوة التعلّم بشكل أسرع، حيث يعتبر التعليم مفتاحا رئيسيا للقضاء على الفقر، ولا شيء يضاهي الاستثمار في التعليم الذي يحقّق عوائد كبيرة.
المساهمون