"لبنان مقفل حتى إشعار آخر"، عبارة تختصر الشلل الذي طاول لبنان الثلاثاء، كتبها أحد المعتصمين على ورقة، ورفعها في وسط بيروت. كل الطرقات الأساسية تقريباً في عدد كبير من المناطق تم إغلاقها بالسواتر الترابية، الحديد، الأخشاب، والإطارات، وحتى بالحشود البشرية. اللبنانيون يصرّون على استكمال ما أصبح يُعرف بـ "انتفاضة 17 أكتوبر" وأوراق السلطة بدأت تحترق ورقة إثر أخرى.
إذ ما إن انتهى رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الإثنين من قراءة "بنود إنقاذية" أقرتها الحكومة ضمن موازنة 2020 ومن خارجها، والتي بلغت 18 بنداً، تزايدت الحشود في ساحات الاعتصامات المنتشرة في عدد كبير من المناطق، وضمناً بيروت... وهو ما اعتبره المراقبون رداً عملياً على قرارات الحكومة، وإصرارا على استقالتها.
البنود التي قرأها الحريري تبدو مجموعة من الأفخاخ. حيث اقتصرت على إعلان عدد من الإجراءات من دون أي تفصيل أو شرح، مع استبعاد غالبية بيانات المطالب التي تم توزيعها خلال الاعتصامات، أو التي تتقاطع تقريباً على رحيل الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية، والانتقال نحو انتخابات نيابية ومحاسبة المسؤولين ومحاكمتهم والحجز على أملاكهم وإخضاعهم للقضاء للتحقيق بمصدر ثرواتهم.
وفي حين وصف الحريري أن هذه البنود هي انقلاب على السياسة المالية للدولة، خلت الأخيرة من اقتراحات جدية لوقف الفساد، ولم تتضمن أي اقتراحات لتغيير السياسات النقدية، ولا للتوزيع العادل للثروة ما بين اللبنانيين، ولا اعتماد ضرائب تصاعدية ولا ضرائب على الثروة، والتي ينادي بها المعتصمون.
واستمرت المصارف في إغلاق أبوابها منذ يوم الجمعة الماضي حتى أمس الثلاثاء، مع ترجيح تمديد المهلة خلال الأيام المقبلة، وأكدت مصادر "العربي الجديد" أنه تم وضع الأموال في مكنات السحب الإلكترونية للمصارف الثلاثاء لتأمين حاجات السوق، وذلك بموازاة انخفاض لسعر صرف الليرة تخطى 1700 أمام الدولار.
سقوط ورقة الحكومة
سقطت الورقة الاقتصادية الحكومية إذن في الشارع، وقد تضمنت 18 بنداً أعلن عنها الحريري، أولها موافقة الحكومة على ميزانية عام 2020 التي تتضمن عجزا نسبته 0.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المقرر أن تساهم البنوك في خفض العجز بواقع 5.1 آلاف مليار ليرة (3.4 مليارات دولار)، إضافة إلى فرض ضريبة على أرباح المصارف.
وخفض رواتب الوزراء وأعضاء البرلمان إلى النصف. خفض موازنة مجلس الإنماء والإعمار 70 في المائة. وخفض ألف مليار ليرة من عجز الكهرباء. وإقرار ضمان الشيخوخة قبل آخر السنة الحالية. وتخصيص عشرين مليار ليرة إضافية لبرنامج دعم الأسر الأكثر فقرا و160 مليون دولار لدعم القروض السكنية.
كذا، تضمنت البنود إعداد مشروع قانون لاستعادة الأموال المنهوبة وقانون إنشاء الهيئة الوطنية لمحاربة الفساد قبل آخر السنة الحالية. وأيضاً، تركيب سكانرز على المعابر الحدودية لمكافحة التهريب وتشديد العقوبات على المهربين.
وإلغاء وزارة الإعلام وعدد من المؤسسات العامة فورا ووضع خطة لدمج أو إلغاء جميع المؤسسات غير الضرورية. وتعيين الهيئات الناظمة للكهرباء والاتصالات والطيران المدني في أسرع وقت ممكن. وتسريع تلزيم معامل إنتاج الكهرباء بشكل ينتهي خلال 4 أشهر. وإقرار مشاريع المرحلة الأولى من الإصلاحات خلال ثلاثة أسابيع، وتنظيم مؤتمر "سيدر" للحصول على تمويل قيمته 11 مليار دولار.
أما مطالب المواطنين فكانت في مكان آخر. إذ تداعى محامون وشكلوا تجمع "محامو الثورة"، وطالبوا في بيان تم نشره الثلاثاء، باستقالة رئيس الجمهورية واعتبار الحكومة مستقيلة، وتكليف حكومة انتقالية وتقصير ولاية مجلس النواب والإعداد لانتخابات نيابية مبكرة، واستعادة الأموال المختلسة من خزينة الدولة بأثر رجعي وإقرار قانون عدم تقادم جرائم اختلاس الأموال العامة، ومصارحة اللبنانيين بحجم الأموال المسروقة، مع نشر أسماء جميع المشتركين والمتدخلين في جرائم سرقة أموال الشعب اللبناني.
كذا، طالب البيان برفع الحصانات النيابية والقضائية والإدارية كافة، والتجميد الاحترازي لحسابات كل سياسي وموظف عام حالي أو سابق تتجاوز قيمتها 750 مليون ليرة ورفع السرية المصرفية عن هذه الحسابات. وإلغاء مخصصات ورواتب الرؤساء والوزراء والنواب...
في حين دعت بيانات تم توزيعها في التحركات والاعتصامات إلى مطالب مشابهة، إضافة إلى إخلاء كافة الأملاك البحرية والنهرية والبرية المنهوبة من قبل السياسيين فوراً، ومصادرتها، استرداد كل الأرباح التي حققتها المصارف من الهندسات المالية واستيراد القمح والمحروقات والأدوية من خلال الدولة اللبنانية مباشرة وفوراً.
وتطبيق الضمان الشامل، وتأمين الكهرباء والمياه خلال 6 أشهر، ودعم التعليم الرسمي، وتفعيل دور المؤسسة الوطنية للاستخدام لتأمين الوظائف، تشكيل صندوق للبطالة، وتطبيق الضرائب التصاعدية.
حبر على ورق
يقول الخبير الاقتصادي كمال حمدان، إن ما أصدرته الحكومة هو فعلياً وعود وردية، بحيث لا يوجد ضمانات ولا مقومات تشريعية أو إدارية أو بشرية في المؤسسات المعنية بالدولة لإعطاء ضمانة لتنفيذ هذه الورقة، هذا من جهة.
ويشرح حمدان: "هذه الورقة من خلال بند تصفير الإنفاق الاستثماري، ترسّخ منطق التقشف والنظر إلى القطاع العام على أنه متراصف مع الفساد، بدلاً من وقف الأخير، وكأن كل شيء مرهون بالاستثمارات الخارجية (سيدر) بدلاً من السير بإصلاحات داخلية بداية من قضايا وقف الفساد".
ويتابع: "أيضاً تطرح الحكومة بيع الدولة في ظل هذه الأزمة الدائرة لتأمين الإيرادات. أتحفظ على كل عملية خصخصة إذا لم يكن هنالك أطر وشروط صارمة وإصلاح سياسي حقيقي.
والانفكاك الحاصل ما بين الطوائف وقواعدها هي حجة إضافية للارتقاء بإعادة تشكيل السلطة والحكم والنظام، وقد يكون ذلك من خلال استقالة الحكومة وتشكيل أخرى وطنية وجدية وتتضمن أسماء ذات مصداقية لطرح حلول جدية للأزمة، إضافة إلى إجراء انتخابات مبكرة على قانون انتخابي عادل مستمد من الدستور. وطبعاً وضع رؤى اقتصادية وإجراءات تغييرية حقيقية تطاول الإنفاق والإيرادات".
أما فيما يتعلق بما قاله الحريري عن مساهمة المصارف في حل الأزمة، فيعتبر حمدان أن هذا الطرح هو محاولة شراء لحلول من خارج الطبق الحقيقي للإنتاج، ففرض ضريبة لسنة بقيمة 25% على المصارف للحصول على 600 مليار ليرة ليس حلاً فعلياً للأزمة، وتحصيل 900 مليار ليرة من فوائد السندات لا يغير في السياسات شيئاً.
ويقول: "هذه أوهام وليست إصلاحات. صندوق النقد الدولي حذر منذ سنوات من استكمال هذه الهندسات التي يقوم بها مصرف لبنان، وحذر من ارتفاع الأعباء ومن عدم نشر التفاصيل التي توضح الوضعية المالية للمصرف المركزي". ويضيف: "أما مصرف لبنان، فيدخل في هذه الآليات من منطلق "أنا الغريق وما خوفي من البلل". ويشرح: "قد يعتمد مصرف لبنان طباعة العملة، وقد يسير بآليات أخرى، فما يهم المصرف المركزي هو عملياته بالعملة الأجنبية، أما ما تبقى فلا أحد يمكن أن يعرف ما الذي قد يقوم به مسبقاً".
بدوره، يعتبر المحلل المالي وليد بو سليمان، أن بعض البنود الواردة في الخطة الحكومية الإنقاذية جيدة ولكن غير واقعية، ويلفت إلى أن الحكومات المتعاقبة وعدت ببعض البنود ولكنها بقيت حبراً على ورق. ويلفت إلى أن تنفيذ بعض البنود يحتاج إلى وقت، والأرجح أنها أعلنت لنزع الفتيل من الشارع لا أكثر.
ويلفت إلى أنه لا يمكن الوصول إلى عجز بنسبة 0.6 في المائة، في ظل اقتصاد منكمش قارب الصفر في المائة، ودين عام نسبته تصل إلى 150 في المائة من الناتج المحلي. في حين أن آلية تمويل مصرف لبنان والمصارف للعجز بقيمة تصل إلى 3.4 مليارات دولار غير واضحة المعالم.
ويؤكد على أن الورقة لم تتطرق إلى مواضيع أساسية منها مثلاً التخمة في القطاع العام بسبب التوظيفات السياسية والعشوائية، ولم تشر إلى إضافة 5500 وظيفة في الإدارات العامة تمت إضافتها قبيل الانتخابات النيابية على الرغم من أن الحكومة والبرلمان تعهدا بإغلاق باب التوظيف العام. وقد بحثت لجنة المال والموازنة هذه التوظيفات السياسية، وأرسلت تقريرها إلى التفتيش المركزي، الذي لم يصدر أي قرار حتى اليوم. "أما فيما يتعلق بالكهرباء، فإن الوعود بإنشاء وترميم معامل الإنتاج خلال 12 شهراً أيضاً غير واقعية، وكذا خفض عجز المؤسسة إلى ألف مليار ليرة".
ويشدد بو سليمان على أنه لا يجوز لرئيس حكومة لبنان تصفير الإنفاق الاستثماري في موازنة 2020، فالموازنة هي أهم وثيقة تنبثق من الدولة وتعكس الرؤية الاقتصادية والسياسة المالية. واعتبر أن هذا الإنفاق من بين المؤثرات الأساسية التي تكبر الاقتصاد وتؤمن الوظائف.
ويضيف بو سليمان: "للأسف الحكومات المتعاقبة من ثلاثة عقود فقدت مصداقيتها لأن كافة الإصلاحات والقوانين ومشاريع القوانين التي يمكن أن تحسن من وضعية الاقتصاد بقيت شعارات، ما أدى الى هذه الهوة بين المسؤولين والشعب. ويعتبر بوسليمان أنه يمكن إعطاء الحكومة فرصة لتطبيق ما وعدت به، وفي حال لم تطبق البنود التي تم إقرارها، تمكن العودة إلى الشارع، لإسقاطها.