تسير الحكومة السودانية على خطى نظيرتها المصرية في معالجة الاضطرابات العنيفة التي يشهدها سوق الصرف الأجنبي، بل وتستخدم أسلوبًا بدائياً في محاولة وقف تهاوي قيمة العملة المحلية في السودان مقابل الدولار.
وبدلاً من معالجة الأسباب التي أدت إلى انهيار قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار، راحت تستخدم العصا الأمنية في معالجة قضية اقتصادية ونقدية بحتة، فقد شنت حملة اعتقالات في صفوف تجار العملة والمضاربين في السوق السوداء، واعتقلت قيادات مصرفية ورؤساء شركات تأمين من بينهم مدير عام بنك فيصل الإسلامي ورئيس شركة التأمين الإسلامية، وحظرت السلطات على العديد من شركات الاستيراد والتصدير، التعامل مع البنوك، لعدم الالتزام بالتنازل عن حصائل الصادرات.
وقادت سلطات الأمن والبنك المركزي حملة ضارية على شركات الصرافة وأغلقت العديد منها، وحجز البنك المركزي أموال حسابات مصرفية كثيرة في البنوك، وتجميد وإيقاف المعاملات المصرفية لعدد من المتاجرين في العملات الأجنبية، بحجة مضاربة أصحابها في العملة وتسخين الأسعار وإشعال السوق السوداء والإضرار بالاقتصاد الوطني.
بل ووصل الأمر إلى حد "تجريس" المضاربين عبر وضع قائمة سوداء تتضمن أسماء عملاء بنوك مشتبه في اتجارهم بالعملة، وقيام البنك المركزي بنشر القائمة على الملأ وفي وسائل الإعلام وتداولها بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي.
وطاولت العقوبات مهربي الذهب والسمسم والصمغ العربي الذين لا يعيدون حصائل تهريبهم للمصارف بل يبيعونها لتجار العملة.
كما صاحب تلك الخطوات تسريب أخبار، أقرب للشائعات، من جهات شبه رسمية لوسائل الإعلام حول قرب وصول مساعدات مالية خارجية تضاف لاحتياطي البلاد من الأجنبي وتحول دون انهياره، وذلك بهدف إعطاء انطباع عن قرب وصول سيولة نقدية كبيرة للقطاع المصرفي.
مثلا ما نشر منتصف الشهر الجاري حول حصول بنك السودان المركزي على وديعة إماراتية بقيمة 1.4 مليار دولار، وكذلك ما نشر في الصحف ووكالات الأنباء حول قرب وصول استثمارات أجنبية للبلاد تتجاوز 20 مليار دولار.
أضف إلى ذلك إطلاق تصريحات من مسؤولين في الدولة تهدد المضاربين في العملة السودانية، بل واعتقالهم ورميهم في غياهب السجون، حتى إن الرئيس السوداني عمر البشير هدد أكثر من مرة باتخاذ إجراءات قاسية بحق المستثمرين في الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الدولة.
وبدلاً من أن تحل هذه الخطوات وغيرها الأزمة، فإنها تتعقد يومًا بعد يوم، ومعها يواصل سعر الدولار ارتفاعه بشكل جنوني وتنتعش السوق السوداء للعملة، ومع تأخر الحكومة السودانية في إيجاد حل ناجز لأزمة سوق الصرف، فإن التوقعات لا تستبعد مواصلة سعر الدولار لارتفاعه في الفترة المقبلة، وربما نجد سعره يتجاوز 50 جنيها للدولار الواحد مقابل نحو 32 جنيها في السوق السوداء حاليا، وبالطبع فإن أي ارتفاع في قيمة العملة الأميركية يعني ارتفاعا في أسعار السلع والخدمات، وحدوث قفزات في معدل التضخم الذي تجاوزت نسبته حاجز الـ56% بالفعل في نهاية شهر فبراير/شباط الماضي.
أزمة سوق الصرف في السودان أعقد كثيرًا من الأزمة التي شهدتها مصر قبل نحو 3 سنوات وأرغمت الحكومة المصرية على اتخاذ قرار بتعويم الجنيه المصري في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2016، فحكومة الخرطوم من الصعب أن تدخل في مفاوضات سريعة مع مؤسسات مالية دولية للحصول منها على قروض ضخمة تمكّنها من سد الفجوة التمويلية وزيادة الاحتياطي النقدي وكبح المضاربات العنيفة التي يشهدها سوق الصرف.
والسودان ليس في حالة تناغم مع صندوق النقد الدولي تمكنه من اقتراض 12 مليار دولار دولار، كما فعلت مصر عقب تعويم عملتها، أو حتى إبرام اتفاق مع الصندوق يفتح الباب أمام حكومة الخرطوم للحصول على قروض من مؤسسات ودول، خاصة مع الفاتورة الباهظة لهذا الاتفاق الذي ينص عادة على إجراء زيادات متواصلة في أسعار الوقود والكهرباء والمياه والضرائب والرسوم الحكومية، وتزيد صعوبة ذلك مع سيطرة أميركا على دوائر صنع القرار في صندوق النقد.
والسودان كذلك ليس في حالة وئام مع البنك الدولي الذي يسيطر الأوروبيون على دوائر صنع القرار فيه، وبالتالي فإن حصوله على قروض سريعة من المؤسستين الدوليتين (الصندوق والبنك) لإحباط عملية المضاربات وإعادة الانضباط لسوق الصرف هو أمر صعب في ظل الخلافات السياسية بين الحكومة السودانية والحكومات الغربية التي تسيطر على المؤسستين.
وللتعامل مع هذا الملف الخطر والساخن فإن الطريق المتاح حاليًا أمام الحكومة السودانية هو الدخول في مفاوضات مباشرة وسريعة مع دول عربية وصديقة للحصول منها على قروض بمليارات الدولارات لإطفاء نيران الدولار المستعرة، ومن بين هذه الدول السعودية والإمارات وقطر وليبيا وتركيا والصين، ودول البريكس كالبرازيل والهند والأرجنتين وجنوب أفريقيا.
إضافة إلى الاقتراض من مؤسسات إقليمية، منها البنك الأفريقي للتنمية والبنك الأفريقي للتصدير والاستيراد والبنك الإسلامي للتنمية وصندوق النقد العربي، لكن الاقتراض من البنكين الأفريقيين تحديدا في حاجة لدعم أميركي قوي بسبب سيطرة أميركا على رأسمالهما، وهذا يتوقف على علاقة الخرطوم الحالية والمستقبلية بواشنطن، وما إذا كانت إدارة ترامب راضية على ملف السودان في مجال حقوق الإنسان والإرهاب.
وهناك أدوات أخرى يمكن من خلالها أن تخفف السودان من اضطرابات سوق الصرف الأجنبي، ومن بين هذه الأدوات التحرك سريعا نحو تقليص العجز في الميزان التجاري والبالغ نحو 6 مليارات دولار، وهذا لن يتم عن طريق زيادة الصادرات والحد من الواردات، فهذا الأمر بحاجة لبعض الوقت. والحل السريع هنا يكمن في وضع قيود شديدة على عمليات الواردات وزيادة الجمارك والرسوم على السلع المستوردة، وحظر استيراد السلع الكمالية خاصة التي لا تدخل ضمن مكونات الصناعة، صحيح أن هذا قد يرفع معدلات التضخم، لكن ما باليد حيلة، فقد تدفع الخطوة السودانيين نحو الاعتماد على المنتج المحلي وتشجيع الصناعة الوطنية.
السودان في مأزق شديد، وسياسة المكابرة والرهان على عنصر الوقت في احتواء اضطرابات سوق الصرف ليست ناجحة، لأن البلاد لا تملك النقد الأجنبي الكافي لمواجهة الأزمة، خصوصا بعد فقدان أهم مورد للنقد الأجنبي وهو النفط، الذي حصلت عليه جنوب السودان عقب استقلالها عن السودان، وفي ظل تراجع الإنتاج الزراعي.
كما أن الرهان على الاستثمارات الأجنبية في حل الأزمة يحتاج لوقت طويل، خصوصا أن بعض هذه الاستثمارات لا تزال مترددة في دخول البلاد، رغم رفع العقوبات الأميركية، لأسباب عدة، منها استمرار اضطرابات سوق الصرف وعدم توافر الدولار في الأسواق وصعوبة تحويل الأرباح الرأسمالية للخارج من قبل المستثمرين الأجانب.
إذا لم يتحرك السودان سريعاً، فإنه سيكون مضطرا في النهاية إلى تعويم عملته الوطنية، ساعتها لن تنتهي الأزمة بالتعويم طالما أن هناك نقصًا في موارد النقد الأجنبي خاصة من قطاعات مهمة مثل الصادرات الزراعية والسياحة والاستثمارات الأجنبية، وطالما أن المدخر لا يزال يتعامل مع الدولار على أنه العملة الأكثر أمانا والأكثر ربحية، وأن العملة الوطنية يأكلها التضخم وتراجع قيمتها.