هل تنطوي العولمة؟

03 اغسطس 2017
العولمة ساهمت بالانفتاح التجاري العالمي (Getty)
+ الخط -
في مطلع هذا القرن، كان الناس يتحدّثون عن العولمة ليل نهار. دافع بعضهم عنها، وقال "إن تطور التكنولوجيا في مجال الحوسبة الغمامية، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، قد ربط العالم بعضه ببعض برباطٍ وثيق لا انفكاك منه.

ونظر آخرون إلى آثارها السببية على اقتصادات الدول النامية، وعلى سوء توزيع الدخل والثروة داخل الأقطار وفيما بينها. وقد أدّى هذا كله إلى قيام حوار طويل لا ينتهي، وقامت مظاهرات صاخبة احتجاجاً على صندوق النقد والبنك الدوليين، وعلى منظمة التجارة العالمية.

وفي كتابه "الليكسس وشجرة الزيتون" المنشور عام 1999، يقول توماس فريدمان، المحرّر والمعلق على الشؤون الدولية في صحيفة نيويورك تايمز، إن العولمة تسير إلى الأمام بقوة، وإن الوسيلة المثلى لتقدّمها هو التوفيق بين الازدهار والحداثة والتي تمثلها سيارة الليكسس اليابانية، والتقاليد والهوية التي تمثلها شجرة الزيتون.

وقدم لنا توماس فريدمان أفكاراً جذّابة عن العولمة، وصل بعضها إلى حد الشطح، حين قال "إن العالم لم يشهد حروباً بين دول متجاورة بعدما رخصت لشركة ماكدونالدز وقوسها الذهبي بممارسة نشاط بيع الهامبرجر والبطاطا المقلية فيها".

ولكنه قال أيضاً إن العولمة قد حفزت الديمقراطية، ومكّنت دولاً صغيرة من أن تُحدث تأثيراً قوياً في العالم. وأعطى على ذلك مثال قناة الجزيرة التي أعطت دولة قطر نفوذاً ومكانة في العالم تفوق حجمها ومقدّراتها.

وبعد استلام دونالد ترامب مقاليد الحكم في العالم، رأينا أن الانفتاح التجاري العالمي قد تعرّض لهزة كبيرة، فالرجل يريد إعادة الوظائف إلى أميركا، أي أنه لا يريد للصناعات الباحثة عن عمالةٍ أقلّ كلفة أن تفتح مصانع خارج الولايات المتحدة، ولا أن تشتري بعض قطع التصنيع أو الخدمات من خارج الولايات المتحدة. وهذا ما فعلته شركات السيارات والحديد والغذاء والملابس والجلود ومعدات الرياضة، وكذلك شركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة.

وعندما كان العالم يؤمن بأن الانفتاح التجاري هو السبيل الأمثل لرخاء العالم، وأن النمو المعتمد على قوة التصدير والتنافسية الأضمن لتحقيق معدلات نمو مستقرّة ومستدامة، أنشئت منظمة التجارة العالمية، حين وقعت 123 دولة عام 1994 على إنشائها، من أجل تشجيع التجارة الحرة بدون قيود جمركية أو سعرية أو كمية. ويبلغ عدد الدول الأعضاء الآن 164.

ولكن، ماذا حصل لهذه المنظمة؟

كنا نتذكّر اجتماعاتها، ونعرف أسماء مدرائها العامين، أمثال مايكل مور، وروجيرو، ونعرف الآن اسم باسكال لامي الفرنسي الذي خدم من الأعوام 2005 - 2013، ولكن القلة من تعرف اسم المدير الحالي البرازيلي.

ماذا سوف يحصل للاقتصاد العالمي، لو أن حرب العملات استعرت بين الدول، وسعت كل دولة إلى إفقار شركائها التجاريين عن طريق التلاعب بأسعار صرف عملاتها، والشواهد على وجود حرب أسعار كبيرة وكثيرة، خصوصاً وأن الاعتماد على عملةٍ دوليةٍ واحدة كالدولار بات يبدو أمراً خاضعاً للنقاش والمنافسة من دول كبرى أخرى، كالصين والاتحاد الأوروبي.

ماذا يفعل العالم، إذا بدأت كل دولة بتطبيق سياسات الحماية الجمركية والقيود الكمية على المستوردات من دول أخرى؟ وماذا ستكون النتيجة على اقتصادات دول العالم، لو أن كل دولة سعت إلى تعزيز عملية التصنيع فيها، عن طريق إحلال منتجاتها مكان مستورداتها؟

لقد جرّب العالم هذا الأسلوب بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً إبّان عقود الخطط التنموية الخمسية، في دول مثل البرازيل والهند وباكستان ومصر والأرجنتين وسورية والعراق، وغيرها. وكانت النتائج في عمومها غير مشجعة، فقد عانت اقتصادات كثير من هذه الدول من التضخّم، وتردّي النوعية، وعدم القدرة على التصدير.

ولكن لكل نظرية استثناءات تشذّ عنها، وتخرج عن سياقها، فقد نجحت ألمانيا بالتصنيع عن هذا الطريق، وكذلك سورية إلى حد ما. ولكنها فشلت في دول عربية أخرى، مثل اليمن ومصر والجزائر، وغيرها من الدول.

وجرّب العالم بعد ذلك أزمة المديونية، وهيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، وانفتاح الصين بعد هزيمة الثورة الثقافية فيها، ودخل العالم في نموذج الانفتاح المعتمد على اتفاقيات التجارة الحرّة والمدعوم من منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد والبنك الدوليين.

وماذا كانت النتيجة؟

أدى فشل دورة الدوحة لمنظمة التجارة العالمية في تحرير تجارة السلع الزراعية، وصادرات المواد الأولية إلى شعور الدول النامية بالخذلان الكبير. وفشلت كل المحاولات بعد ذلك في زحزحة الدول الغنية عن موقفها.

وكذلك وجد العالم نفسه بعد الثورات التكنولوجية أسوأ حالاً مما كان، حيث استأثر أغنياء العالم بمعظم الثروة والدخل، كما أوضحت كتابات الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي.

أما الصين فقد اعتمدت على تزويد العالم بالسلع الاستهلاكية الرخيصة عقدين، ما ساهم في تثبيت الأجور في اقتصادات العالم، في مقابل زيادة أرباح شركات التوزيع والتسويق، والتي تتاجر تحت أسماء تجارية حصرية وبرّاقة.

وبفضل التطور في وسائل الدعاية والترويج، والقدرة على استخدام وسائل الإعلام والتواصل الجماهيري، خلق جيل جديد في العالم يصرّ على استهلاك وشراء ما تطرحه وكالات التسويق، ودور المبيعات العالمية في الغرب. ولكن الصين الآن تريد أن يكون لها وسائلها التسويقية، وتريد أن ترتقي بالمستوى التكنولوجي لصناعاتها، وأن تدخل إلى إنتاج الطاقة والفضاء والسلاح والآلات والمكائن، ولو أدّى هذا إلى تخفيض نموها السنوي من رقمين إلى رقم واحد.

ورأينا بروز تكتلاتٍ جديدة مثل "البريكس" التي تضم الصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، لكي تواجه العملاق الأميركي. ولكن "بريكس" لا تتحرك بالوتيرة نفسها التي تتحرّك بها الصين وحدها نحو إنشاء بنك تنمية آسيوي، أو بناء طرق الحرير (حزام واحد وطريق واحد).

ولقد رأينا في العالم نزعةً متزايدة نحو التنصل من التزامات الاتفاقيات الجماعية لحرية التجارة في التكتلات الإقليمية. فلم تعد "نافتا" (منطقة التجارة الحرة في شمال أميركا)، ولا حتى "السارك" التي تضم دول جنوب آسيا (الهند وباكستان وبوتان وسيكيم وسريلانكا والمالديف ونيبال وبنغلاديش) تسير بخطىً نحو التآلف والانفتاح التجاري.

وأخيراً، شاهدنا ارتفاعاً في إعداد القرارات الخالقة لعقوبات اقتصادية أو مقاطعة اقتصادية في العالم، مثل العقوبات ضد إيران وروسيا وكوبا، ومن قبل العراق. وأخيراً وليس آخراً، ما جرى داخل مجلس التعاون الخليجي من إجراءات سعودية/ إمارتية/ بحرينية ضد دولة قطر.

إن ربط تقييد التجارة العالمية سواء بالمصالح الاقتصادية الصرفة للدول، أو بسبب دوافع وهواجس سياسية لا تأبه بالنتائج الاقتصادية لهذا التقييد، سيؤدي، في نهاية الأمر، إلى إيجاد حالة من الفوضى العارمة في الاقتصاد الدولي.

يقف العالم كله على بوابة مخيفة من الحروب الاقتصادية، والممارسات الأنانية التي قد تؤدي إلى مزيد من الفقر والجوع والمرض في العالم، محققين نبوءة الاقتصادي البريطاني الكلاسيكي روبرت مالتوس الذي تنبأ بتفشي الأمراض والموت والجوع، عندما ارتفع سكان العالم ارتفاعاً كبيراً في القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر.

على هذا العالم المتعثر بين سوء التوزيع الناجم عن الانفتاح، والتهديد بالفقر في حالة الانغلاق، أن يعقل قراراته، قبل أن تندلع حروب عالمية لا تبقي ولا تذر.



المساهمون