إغلاق نسمة... احتدام الصراع السياسي التونسي قبل الانتخابات

08 مايو 2019
صحافيو نسمة يحتجون على حصارها (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
عادت قناة "نسمة" إلى البثّ ببرامج مسجّلة والكثير من المسلسلات التركية خلال رمضان، في انتظار أن تعود للبرامج المباشرة، بعد منح الهايكا الإذن بالعودة للبث من جديد بعد تسوية ملفها القانوني، وذلك بعد حصارها ومصادرة معدّاتها، يوم 25 إبريل/نيسان الماضي. وأكدت القناة، الأسبوع الماضي، أنها "ستوافي الهايكا بملف يفيد تغيير شكل الشركة القانوني حسب المطلوب"، وهو ما شرعت فيه، عبر تغيير صبغتها القانونية من شركة محدودة المسؤولية إلى شركة خفية الاسم، لتنهي هذا الجدل القانوني. هذا فيما أبدت الهايكا استعدادها وتعاونها لتسهيل عملية التسوية ومنح الآجال القانونية الممكنة لذلك، لكنها في المقابل لم تمنح الإذن بعودة البث بشكل طبيعي. 

لكنّ انتهاء الجدل القانوني لن ينهي الأزمة؛ إذ إنّ القضية في الأصل سياسية بامتياز، وتتخذ من الإخلالات القانونية واجهةً لتبريرها، ولكنّها تخفي في الواقع أهدافاً أخرى غير معلنة، برغم وضوحها للمتابعين وللمعنيين بالأمر.

ولا يتعلق الأمر بالهيئة المستقلة للسمعي البصري (الهايكا) التي تريد فرض سلطتها القانونية واحترام مكونات المشهد الإعلامي لقوانينها، خصوصاً أنّ الذين دخلوا معها في تحدٍّ كُثُر، و"نسمة" فقط واحدة منهم. لكنّ قضية "نسمة" بالذات أكبر بكثير وتتداخل فيها ملفات متعددة، بعضها على علاقة بالانتخابات وأخرى بالصراعات بين مكونات المشهد السياسي. وأهمها ما يتعلق بوضع الحريات في تونس ومسار الانتقال الديمقراطي، وهو ما دفع كل المكونات الحزبية في تونس إلى الإسراع بإعلان موقفها الرافض لإغلاق القناة، لاستشعار الجميع بأنّ هناك خطرا يحدق بالجميع، وأنّ ضرب "نسمة" ومن ورائه تعدد المشهد الإعلامي سيشكّل تباعاً ضرباً للتعددية السياسية والتجربة الديمقراطية ككلّ.

وكان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، قد قال خلال كلمة ألقاها الأربعاء الماضي أمام مقر المنظمة الشغيلة بمناسبة عيد العمال، إنّ "قناة نسمة ستعود إلى النشاط، أحب من أحب وكره من كره". وعبّر الطبوبي عن توجس الاتحاد من "النزعة الاستبدادية التي تكتم الأفواه عبر سجن المدونين وغلق قناة نسمة وابتزاز الإعلاميين وحجب
حقوقهم".
من جهتها، ذهبت حركة النهضة إلى أكثر من ذلك، فعقدت اجتماعاً طارئاً لمكتبها التنفيذي، برئاسة راشد الغنوشي، لتداول قرار غلق "نسمة"، واعتبرت في نهايته أنّ "الاعتداء على حرية الإعلام والتحريض على مؤسساته يتنافى ويتناقض مع الأهداف التي تأسست عليها مشاركتها في الحكومة"، وهو ما يعني تهديداً بالانسحاب من الحكومة أصلاً. ورأت "النهضة" أنّ اللجوء إلى القوة العامة لإيقاف بث قناة نسمة بتلك الصورة والحيثيات مسيء لتونس ولثورتها ولسمعتها، وهي عملية مرفوضة وتبعث برسائل سلبية تهدد المكاسب الإعلامية، وتعيد إلى الأذهان سياسة تدخّل الدولة في الشأن الإعلامي وضرب الحريات، وهو ما يتنافى مع مكاسب الثورة والدستور في احترام حرية التعبير واستقلال المؤسسات الإعلامية. كما دعت، "الهايكا"، إلى التزام الحياد والتراجع عن القرار وحلّ الإشكال القائم بين الهيئة والقناة في كنف الحوار، بعيداً عن الأساليب الزجرية مثل قطع البث والخطايا التعجيزية.
وأعلنت "الجبهة الشعبية" كذلك، في بيان لها، عن رفضها المبدئي لغلق أيّ مؤسسة إعلامية، مشددةً في الوقت نفسه على ضرورة تسوية الوضعيات القانونيّة والماليّة لكل المؤسسات الإعلامية، حفاظاً على تنوع المشهد الإعلامي وتعدديته، وعلى وظائف الصحافيين وكل العاملين في القطاع. كما شدّدت على ضرورة تكريس استقلالية الإعلام ومهنيته، ورفضها لما يقوم به رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، واللوبي الداعم له من "عمليّة وضع يد على المؤسسات الإعلامية وتوظيفها للدعاية الرخيصة لمشروعه الاستبدادي واللاوطني". كما أكدت ضرورة حماية الحقوق المهنية والاقتصادية للصحافيين والعاملين في قناة نسمة وغيرها من المؤسسات الاعلامية، بحسب ما قالت.

والتقى مؤسس القناة نبيل القروي بالرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، ليؤكد الأخير أنّ حريّة الإعلام والصحافة وحرية التعبير هما المكسب الأبرز للثورة التونسيّة، وأن لا مجال للتراجع عنهما أو التفريط فيهما، مثمّناً الدور المحوري الذي لعبته وسائل الإعلام الوطنيّة، ومن بينها قناة نسمة، في مرافقة وإنجاح مسار الانتقال الديمقراطي في بلادنا وتثبيت الممارسة الديمقراطية. لكنّ الرئاسة أوضحت أنّ اللقاء جرى بطلب من القروي. فيما تأتي إشارة السبسي إلى دور نسمة في الانتقال الديمقراطي لتحيل على دور القروي في لقاء باريس بين "الشيخين"، الغنوشي والسبسي، الذي قاد إلى تهدئة الأوضاع بين حزبي "حركة النهضة" و"نداء تونس" بعد اغتيال محمد البراهمي وشكري بلعيد. وقاد اللقاء إلى الحوار الوطني بعد ذلك وانتهى إلى التحالف بين الرجلين، وهو منعطف هام وتاريخي في الثورة التونسية مكّنها من تجنب سيناريوهات كارثية عرفتها دول أخرى.
لكنّ هذا يكشف أيضاً الدور السياسي للقناة ولنبيل القروي شخصياً، وهو الذي لم يعد قادراً على إخفاء طموحاته الشخصية وتوجّهه لخوض الانتخابات الرئاسية، خصوصاً أنّه يؤكد أنّه كان مساهماً في نجاح السبسي في الانتخابات الرئاسيّة الماضية عام 2014.
وأظهرت عملية سبر للآراء حول الانتخابات، نشرتها مؤسسة "إمرود كونسيلتينغ" بالتعاون مع دار الصباح، الأسبوع الماضي، أن 9.8 بالمائة من المستجوبين سيصوتون ليوسف الشاهد، وهو احتلّ المرتبة الأولى. لكنّ المفاجأة تتمثل في وجود نبيل القروي في المرتبة الثانية بنسبة 8.1 بالمائة من المستجوبين. وإذا كان القروي شخصية حقيقية ومعروفة، فإنّ "حزب القروي" لا وجود له أصلاً. ومع ذلك، جاء هذا الحزب في المرتبة السابعة في نوايا التصويت بالنسبة للانتخابات التشريعية، قبل أحزاب أخرى مثل "آفاق تونس" و"حزب البديل" و"مشروع تونس" و"تيار المحبة" و"حركة الشعب" وحزب "بني وطني" وغيرهم.
وتظهر فيديوهات تبثّها قناة "نسمة" عن نشاط القروي من خلال جمعية "خليل تونس" (يعود
إلى اسم ابنه المتوفي في حادث مروري، ويبثّ عن أعمال القروي الخيرية، وهو ما أثار الجدل على أساس أنّه بروباغندا للقروي) صورًا لالتحامه بالجماهير في الجهات، وتوزيعه للإعلانات، وخطابه في الناس. ويقول مواطن في أحدها إنّ "هذا لم يحدث منذ زمن بورقيبة"، ويردف آخر أن "الحكومة لا تأبه بهم" وهي خطابات انتخابية واضحة لا تتعلق بالعمل الإعلامي أو الخيري. وتشكّل أيضاً لب قضية نسمة وخلافها مع المتداخلين في الشأن السياسي والطامحين إلى المناصب الرئاسية والحكومية والبرلمانية.

لكنّ هذا كلّه لا يتوقف عند القروي، إذ إنّ قنوات أخرى تلعب أدوارًا سياسيّة واضحة في دعم الحكومة أو معارضتها، في اصطفاف سياسي وانتخابي واضح، ولكنّه أيضاً اصطفاف مالي. إذ إنّ رجال أعمال وسياسيين كُثُرا يقفون وراء دعم هذه القناة أو تلك، بوضوحٍ أو تخفٍّ. كما أنّ هناك حرباً ضروساً بين القنوات على "كعكة الاستشهار" (تقسيم الإعلانات التلفزيونيّة، وهي أساس المنافسة بين القنوات التونسيّة). ويُذكر هنا، أنّ قناتين تلفزيونيتين هما قناة "الحوار التونسي" و"نسمة تي في" تحتكران المراتب الخمس الأولى في نسب المشاهدة في البلاد، وفقاً لإحصائيات شهر يناير/كانون الثاني 2019 الذي أعدته مؤسسة "سيغما كونساي" لسبر الآراء وقياس نسب الاستماع والمشاهدة.
لكنّ القروي، ومنذ بدء الخلاف بين الرئيس الباجي قايد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، اختار مناصرة الأول، وانخرط في حرب واضحة على الشاهد. وقد يرى كِلا الطرفين أنّ الآخر يشكّل منافساً له في الاستحقاق الانتخابي المرتقب، وينبغي "إزالته من الطريق".


ويؤكّد التقرير السنوي لواقع الإعلام في تونس الذي قدمه مركز تونس لحرية الصحافة، يوم الأربعاء الماضي، أن التوجه السياسي يرتهن الخط التحريري لبعض المؤسسات الإعلامية في تونس العمومية والخاصة.
وشمل التقرير 125 صحافياً وصحافية من مختلف المؤسسات الإعلامية بخصوص رؤيتهم لحيادية الأداء الإعلامي سنة 2018. واعتبر 92 بالمائة منهم أن الإعلام التونسي لم يكن محايداً في تعاطيه مع الأزمات السياسية والاجتماعية، مبررين ذلك بوجود ضغوطات "اقتصادية" و"سياسية" على الصحافيين (56 بالمائة و41 بالمائة على التوالي).


مقابل ذلك، اعتبر أغلب المستجوبين أن الإعلام العمومي (الحكومي) كان أكثر حيادًا سنة 2018 بنسبة 84 بالمائة منهم، وهو ما فسره رئيس المركز محمود الذوادي بتمتع صحافيي مؤسسات الإعلام العمومي بسقف حرية مرتفع إلى حد ما، بالإضافة إلى وجود وعي داخلها بالنأي عن الضغوطات السياسية والاقتصادية.
ويوم الجمعة الماضي، لمناسبة اليوم العالمي لحريّة الصحافة (3 مايو/أيار من كل عام)، قدمت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين تقريرها السنوي حول واقع الحريات الصحافية في البلاد، وتخوفت فيه من تراجع مستواها. واستعرض التقرير وضع الحريات الصحافي في تونس في الفترة بين 3 مايو/أيار 2018 و30 إبريل/نيسان 2018، مشيراً إلى أن "مسار الحريات الصحافية في تونس تراجع بداية عام 2019، مما زاد المخاوف من عودة قبضة سلطة المال السياسي على الإعلام، بعد أن كانت الأشهر الثمانية الأخيرة من السنة الماضية شهدت نوعاً من الانفراج عبر تراجع عدد الاعتداءات على الصحافيين".
وأكد التقرير أن الخطر الأكبر الذي تتعرض له حرية الصحافة هو هشاشة الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للعاملين في القطاع الإعلامي، والتي قد تكون مدخلاً رئيسياً إلى العودة إلى مربع الاستبداد الأول، عبر استغلال رأس المال الفاسد والأحزاب السياسية لهذه الحالة. وسجّلت النقابة أكثر من 150 حالة طرد لصحافيين، وأكثر من 400 إعلام بعدم خلاص أجور إعلاميين في موعدها.

المساهمون