امتدّت رحلة الإعلامي التونسي الفاهم بوكدوس، في سجون نظام المخلوع زين العابدين بن علي، لثلاث فترات. تراوحت فيها الأحكام بين خمس سنوات سجناً وأربع سنوات، بسبب نقله لوقائع انتفاضة الحوض المنجمي في محافظة قفصة بالجنوب الغربي التونسي، لصالح قناة "الحوار التونسي" الخاصة التي كانت تبث حينها من خارج تونس. كما كان آخر صحافي يغادر سجون بن علي يوم 19 كانون الثاني/ يناير 2011، أي بعد خمسة أيام على سقوطه.
"العربي الجديد" التقت الفاهم بوكدوس، لمناسبة الذكرى الثامنة لنجاح الثورة، ليتحدث عمّا عاشه قبل الثورة وما يعيشه اليوم باعتباره المدير التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، بالإضافة إلى خبرته العربية إذ سبق له أن عمل مديراً لوحدة الرصد والتوثيق في مركز الدوحة لحرية الإعلام.
يتحدث بوكدوس عن مقارنته بين الوضع الإعلامي في تونس قبل الثورة، قائلاً: "في التسعينيات، كان الصحافيون يقولون إنه في الجزائر يقتلون الصحافيين، أما في تونس فيقتلون الصحافة. رغم وجود عدد كبير من المهارات الصحافية في تونس قبل الثورة، وجدت لها مكاناً في كبرى المؤسسات الإعلامية في العالم، فإنّها لم تكن لتطلق أجنحتها في وجود نظام بوليسي ديكتاتوري لا يؤمن بغير إعلام البروباغندا، ويوظف كل إمكانيات الدولة من أجل جعل وسائل الإعلام مجرّد جزء من مشهد الديكور العام، وتتحول فيه وظيفة الإعلام إلى تزيين لجرائم الديكتاتورية وفسادها".
وكأنّ آلام الجراح تعاوده من جديد، يُضيف: "كانت سياسات الإعلام العمومي تصاغ في قصر بن علي وتراقب من هناك، أمّا الإعلام الخاص فكان مزارع تمنح لأعضاء العائلة والمقربين منها ترخيصاً وتمويلاً وبرامج، وأوجد للغرض جهازاً يسمى "وكالة الاتصال الخارجي"، كان يستعمل داخلياً الإشهار العمومي كوسيلة لتطويع وسائل الإعلام والصحافيين وإخراس المتنطعين منهم، أما خارجياً فكان طريقةً لشراء الضمائر تنفيساً للأزمات الداخلية".
عن الإعلام التونسي بعد الثورة، يقول بوكدوس: "لقد عكست السنوات الثماني بعد الثورة طفرةً إعلامية حقيقية أسّس لها دستور تقدمي، وقوانين تنافس غيرها حتى في البلدان الإسكندنافية، على غرار القانون الأساسي المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة، وأوجدت أرقى هيئات التعديل والتعديل الذاتي، وأوحت كل المؤشرات بأننا لا نعيش ربيعاً عربياً فقط بل ربيعاً عالمياً".
اقــرأ أيضاً
ويروي الفاهم بوكدوس أيضاً عن معايشته الشخصية لحقبة ما قبل "ثورة الياسمين"، فيقول إنّه "طيلة سنوات الديكتاتورية كانت تجربتي الإعلامية هي تجربة جيلي، إذ تَعتبر الديكتاتورية مجرد طرح موضوع الاستقلالية الصحافية فتح حرب مفتوحة مع النظام تتجاوز ارتداداتها المجال المهني إلى المجال الأسري والخاص". وبينما يتذكّر كل ما حصل، يضيف: "طيلة سنوات كنت تحت مراقبة جهاز البوليس يراقب تنقلاتي، مثلما يتتبع مكالماتي الهاتفية ومراسلاتي الإلكترونية، ويحاصر بيتي ويضيق على عائلتي الصغيرة والموسعة ويمارس عليها سياسة التجويع الجماعي، ويطبّق عليّ سياسات الترهيب والتهديد ويستعمل أشكال العنف المادّي كلّما أراد ذلك، منعاً لتغطية حدث أو حضور مناسبة عامة وصولاً إلى استعمال القضاء وفتح باب السجون".
"كان أصعب قرار أن تكون صحافياً مستقلاً تحت حكم علي، بما يعني أن تكون مستعداً لتُسلب كلّ الحقوق وتُعزل اجتماعياً وتُفرد مهنياً وأن تُصنّف في قائمة الأعداء الدائمين، وكنتُ فخوراً بأن أكون كذلك وقد تكون تجربتي السياسية والحقوقية قد ساعدتني كثيراً على اتخاذ قرار مماثل"، هكذا يصف بوكدوس عمله الإعلامي حينها. وحين نعود بالزمن إلى لحظتنا الراهنة في تونس، ونسأل عن دور الإعلام في الانتقال الديمقراطي الذي تعرفه تونس، يقول: "إنّ حرية الصحافة تؤسس للديمقراطية ولكنها في النموذج التونسي قادرة على توفير أسس قيادة الانتقال الديمقراطي. ففي ظلّ توزان الضعف الذي تعيشه السلطات الثلاث بات يُنظر إلى الإعلام الحرّ كنقطة القوة الوحيدة في تونس".
لكنّ البعض يرى أنّ الإعلام تحوّل إلى فوضى. وعن ذلك، يرى الإعلامي التونسي أنّ الفوضى المؤسسة بعد الثورة كانت لها إيجابياتها وسلبياتها، لكنّه يخشى أنّ "الفوضى العائقة للانتقال الديمقراطي أسس لها منذ أواخر 2011 في ظل النقاش الحادّ حول التعديل السمعي البصري، حين خيضت معارك قاسمة من أجل فرض الإشهار السياسي ومنح أحزاب سياسية رخصاً لمؤسسات إذاعية وتلفزية في محاولة لاستنساخ المشهد اللبناني أو العراقي، ترك الخيار في مرحلة ثانية "مع فشله" إلى سيناريو الاختراق السياسي والمال الفاسد لوسائل الإعلام ما زال يعبث، في كثير من الأحيان، بالمضامين الصحافية من خلال التكفير بالثورة والعدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية، والتيئيس من نجاح نموذج مدني وديمقراطي في محيط إقليمي مرهق بالثورات والانتفاضات المجهضة، في محاولة لإنتاج مشهد إعلامي يليق بديكتاتورية ناشئة".
اقــرأ أيضاً
وعن الأوضاع المادية الهشّة للصحافيين التونسيين، واحتمال أن تهدد حرية الصحافة وتوقيع اتفاقية بين النقابة الوطنية للصحافيين ونقابات المؤسسات الإعلامية برعاية حكومية، يقول الفاهم: "في ظلّ تفقير الصحافيين يمكن أن تستعمل الحرية أكثر من قبل المال الإعلامي الفاسد لتطويع المهنة وتدجين الصحافيين، فنفقد بذلك الحرية ونخسر المهنة. ولذلك سُيرت حملات لصون كرامة الصحافي، ورفعت عشرات القضايا بأرباب المؤسسات الإعلامية من أجل احترام الحقوق المهنية ووقف الطرد الجماعي للصحافيين. ظلّت محاولات ترقيعية لا أكثر ولا أقل، فتّحت الأعين منذ سنة 2016 من أجل مناقشة مشروع اتفاقية إطارية مشتركة للصحافيين التونسيين، وتمّ توقيعها أخيراً يوم 9 يناير الجاري". ويضيف: "لقد جسّد توقيع الاتفاقية، من جهة، حدثاً وطنياً وعربياً بامتياز يمنح لنقابة الصحافيين لأول مرة حق التفاوض باسم منظوريه، ويضع الصحافيين في موقع محوري في المجتمع وداخل المؤسسات الإعلامية كهوية ذات خصوصية ونوعيّة، كما يمنح للصحافيين خاصة في القطاع الخاص حقوقاً غير مسبوقة تتعلق بالحد الأدنى من الأجور والترقيات والعطل والملكية الفكرية".
وينتقل الحديث عن الآفاق المستقبلية للإعلام التونسي فيقول "نظرياً، في ظلّ الأزمة الهيكلية المتعددة الأبعاد في تونس بعد الثورة، لا يمكن أن ننظر للإعلام بمعيار مثالي كجزيرة معزولة، فهو أكثر القطاعات التصاقاً بمعادلة التأثر والتأثير. وضروري تأثّره بالمناخات العامة. لكن كان يُنتظر منه بشكل واقعي أن يكون حاله أفضل مما هو عليه الآن. ومن المنتظر أن يشكل 2019 عام تحويل وسائل الإعلام إلى منصات حرب حقيقية بين مختلف الفرقاء السياسيين، وذلك أشهراً قليلة قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية، بعدما فُقد مجال المناورة الدستورية والبرلمانية"، ليختم بالحديث عن سعي بعض الأطراف الداخلية والخارجية للسيطرة على الإعلام التونسي لغايات سياسوية. ويقول بنبرة الواثق: "تونس الجديدة ما زالت تملك من هوامش الحريات والأسس القانونية وهيئات التعديل والتعديل الذاتي، ومن نجاعة الرأي العام بما يمكّنه من إفشال محاولات اختطاف الإعلام التونسي ورهنه لجهات معينة".
يتحدث بوكدوس عن مقارنته بين الوضع الإعلامي في تونس قبل الثورة، قائلاً: "في التسعينيات، كان الصحافيون يقولون إنه في الجزائر يقتلون الصحافيين، أما في تونس فيقتلون الصحافة. رغم وجود عدد كبير من المهارات الصحافية في تونس قبل الثورة، وجدت لها مكاناً في كبرى المؤسسات الإعلامية في العالم، فإنّها لم تكن لتطلق أجنحتها في وجود نظام بوليسي ديكتاتوري لا يؤمن بغير إعلام البروباغندا، ويوظف كل إمكانيات الدولة من أجل جعل وسائل الإعلام مجرّد جزء من مشهد الديكور العام، وتتحول فيه وظيفة الإعلام إلى تزيين لجرائم الديكتاتورية وفسادها".
وكأنّ آلام الجراح تعاوده من جديد، يُضيف: "كانت سياسات الإعلام العمومي تصاغ في قصر بن علي وتراقب من هناك، أمّا الإعلام الخاص فكان مزارع تمنح لأعضاء العائلة والمقربين منها ترخيصاً وتمويلاً وبرامج، وأوجد للغرض جهازاً يسمى "وكالة الاتصال الخارجي"، كان يستعمل داخلياً الإشهار العمومي كوسيلة لتطويع وسائل الإعلام والصحافيين وإخراس المتنطعين منهم، أما خارجياً فكان طريقةً لشراء الضمائر تنفيساً للأزمات الداخلية".
عن الإعلام التونسي بعد الثورة، يقول بوكدوس: "لقد عكست السنوات الثماني بعد الثورة طفرةً إعلامية حقيقية أسّس لها دستور تقدمي، وقوانين تنافس غيرها حتى في البلدان الإسكندنافية، على غرار القانون الأساسي المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة، وأوجدت أرقى هيئات التعديل والتعديل الذاتي، وأوحت كل المؤشرات بأننا لا نعيش ربيعاً عربياً فقط بل ربيعاً عالمياً".
ويروي الفاهم بوكدوس أيضاً عن معايشته الشخصية لحقبة ما قبل "ثورة الياسمين"، فيقول إنّه "طيلة سنوات الديكتاتورية كانت تجربتي الإعلامية هي تجربة جيلي، إذ تَعتبر الديكتاتورية مجرد طرح موضوع الاستقلالية الصحافية فتح حرب مفتوحة مع النظام تتجاوز ارتداداتها المجال المهني إلى المجال الأسري والخاص". وبينما يتذكّر كل ما حصل، يضيف: "طيلة سنوات كنت تحت مراقبة جهاز البوليس يراقب تنقلاتي، مثلما يتتبع مكالماتي الهاتفية ومراسلاتي الإلكترونية، ويحاصر بيتي ويضيق على عائلتي الصغيرة والموسعة ويمارس عليها سياسة التجويع الجماعي، ويطبّق عليّ سياسات الترهيب والتهديد ويستعمل أشكال العنف المادّي كلّما أراد ذلك، منعاً لتغطية حدث أو حضور مناسبة عامة وصولاً إلى استعمال القضاء وفتح باب السجون".
"كان أصعب قرار أن تكون صحافياً مستقلاً تحت حكم علي، بما يعني أن تكون مستعداً لتُسلب كلّ الحقوق وتُعزل اجتماعياً وتُفرد مهنياً وأن تُصنّف في قائمة الأعداء الدائمين، وكنتُ فخوراً بأن أكون كذلك وقد تكون تجربتي السياسية والحقوقية قد ساعدتني كثيراً على اتخاذ قرار مماثل"، هكذا يصف بوكدوس عمله الإعلامي حينها. وحين نعود بالزمن إلى لحظتنا الراهنة في تونس، ونسأل عن دور الإعلام في الانتقال الديمقراطي الذي تعرفه تونس، يقول: "إنّ حرية الصحافة تؤسس للديمقراطية ولكنها في النموذج التونسي قادرة على توفير أسس قيادة الانتقال الديمقراطي. ففي ظلّ توزان الضعف الذي تعيشه السلطات الثلاث بات يُنظر إلى الإعلام الحرّ كنقطة القوة الوحيدة في تونس".
لكنّ البعض يرى أنّ الإعلام تحوّل إلى فوضى. وعن ذلك، يرى الإعلامي التونسي أنّ الفوضى المؤسسة بعد الثورة كانت لها إيجابياتها وسلبياتها، لكنّه يخشى أنّ "الفوضى العائقة للانتقال الديمقراطي أسس لها منذ أواخر 2011 في ظل النقاش الحادّ حول التعديل السمعي البصري، حين خيضت معارك قاسمة من أجل فرض الإشهار السياسي ومنح أحزاب سياسية رخصاً لمؤسسات إذاعية وتلفزية في محاولة لاستنساخ المشهد اللبناني أو العراقي، ترك الخيار في مرحلة ثانية "مع فشله" إلى سيناريو الاختراق السياسي والمال الفاسد لوسائل الإعلام ما زال يعبث، في كثير من الأحيان، بالمضامين الصحافية من خلال التكفير بالثورة والعدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية، والتيئيس من نجاح نموذج مدني وديمقراطي في محيط إقليمي مرهق بالثورات والانتفاضات المجهضة، في محاولة لإنتاج مشهد إعلامي يليق بديكتاتورية ناشئة".
وعن الأوضاع المادية الهشّة للصحافيين التونسيين، واحتمال أن تهدد حرية الصحافة وتوقيع اتفاقية بين النقابة الوطنية للصحافيين ونقابات المؤسسات الإعلامية برعاية حكومية، يقول الفاهم: "في ظلّ تفقير الصحافيين يمكن أن تستعمل الحرية أكثر من قبل المال الإعلامي الفاسد لتطويع المهنة وتدجين الصحافيين، فنفقد بذلك الحرية ونخسر المهنة. ولذلك سُيرت حملات لصون كرامة الصحافي، ورفعت عشرات القضايا بأرباب المؤسسات الإعلامية من أجل احترام الحقوق المهنية ووقف الطرد الجماعي للصحافيين. ظلّت محاولات ترقيعية لا أكثر ولا أقل، فتّحت الأعين منذ سنة 2016 من أجل مناقشة مشروع اتفاقية إطارية مشتركة للصحافيين التونسيين، وتمّ توقيعها أخيراً يوم 9 يناير الجاري". ويضيف: "لقد جسّد توقيع الاتفاقية، من جهة، حدثاً وطنياً وعربياً بامتياز يمنح لنقابة الصحافيين لأول مرة حق التفاوض باسم منظوريه، ويضع الصحافيين في موقع محوري في المجتمع وداخل المؤسسات الإعلامية كهوية ذات خصوصية ونوعيّة، كما يمنح للصحافيين خاصة في القطاع الخاص حقوقاً غير مسبوقة تتعلق بالحد الأدنى من الأجور والترقيات والعطل والملكية الفكرية".
وينتقل الحديث عن الآفاق المستقبلية للإعلام التونسي فيقول "نظرياً، في ظلّ الأزمة الهيكلية المتعددة الأبعاد في تونس بعد الثورة، لا يمكن أن ننظر للإعلام بمعيار مثالي كجزيرة معزولة، فهو أكثر القطاعات التصاقاً بمعادلة التأثر والتأثير. وضروري تأثّره بالمناخات العامة. لكن كان يُنتظر منه بشكل واقعي أن يكون حاله أفضل مما هو عليه الآن. ومن المنتظر أن يشكل 2019 عام تحويل وسائل الإعلام إلى منصات حرب حقيقية بين مختلف الفرقاء السياسيين، وذلك أشهراً قليلة قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية، بعدما فُقد مجال المناورة الدستورية والبرلمانية"، ليختم بالحديث عن سعي بعض الأطراف الداخلية والخارجية للسيطرة على الإعلام التونسي لغايات سياسوية. ويقول بنبرة الواثق: "تونس الجديدة ما زالت تملك من هوامش الحريات والأسس القانونية وهيئات التعديل والتعديل الذاتي، ومن نجاعة الرأي العام بما يمكّنه من إفشال محاولات اختطاف الإعلام التونسي ورهنه لجهات معينة".