في صباح يوم 13 يناير/ كانون الثاني من عام 1970، احتلّ متظاهرون القاعة الأساسية لمدخل صحيفة "دير شبيغل" في مدينة هامبورغ. كان على موظّفي المجلّة أن يجدوا طريقهم في أثناء المشي بين جموع الشباب الذين بقوا معتصمين على الأرض. سبب المظاهرة كان قلق الناشطين الكبير العاملين في حملة Biafra Aid، إذْ تواردت أنباء عن أنّ المحاولة التمرديّة في بناء جمهورية بشرق نيجيريا قد فشلت، وثمّة خشية من حدوث إبادة جماعيَّة. كان الخوف من ارتكاب قوات الحكومة المركزيّة المنتصرة إبادة جماعيَّة وعمليات اغتصاب واسعة وقتل الأطفال. طالب المتظاهرون الجريدة بأنّ تضع خبر الإبادة الجماعيّة القادمة على الصفحة الأولى في عددها القادم.
وكانت حملة Biafra Aid في ألمانيا، من أوائل الحركات الشبابيّة الاحتجاجيّة، التي توجِّه اهتمامها إلى القارّة الأفريقيّة. في الوقت نفسه، كانت حرب فيتنام مندلعة، والشراسة في أوجها، وربيع براغ قد بدأ، والاضطرابات الطلابيَّة الثوريَّة تتصدّر نشرات الأخبار. ومع ذلك، كان مئات الآلاف في ألمانيا مهتمين بالحرب الأفريقيَّة. والسبب، كما يقول الباحث الألماني هانس هيلشير، "الصور الإنسانيّة المأساويّة المُحطِّمة".
حصلت نيجيريا على استقلالها عام 1970، وكانت تعتبر الدولة الأكثر نموذجية في أفريقيا. كان عدد سكانها بعد الاستقلال نحو 35 مليون نسمة. بعد حصول العديد من الانقلابات العسكريّة والمذابح، تراجعت جماعة "إيبو"، وهي جماعة إثنية متمايزة، إلى مناطقها الأصلية في الشرق. وفي عام 1967 أُعلنت ولاية "بيافرا" دولةً مستقلّة، وهي من أكثر المناطق غنىً للنفط في أفريقيا. أرادت الحكومة المركزية في لاغوس إخماد التمرّد، واستخدمت القوة العسكريّة المباشرة. دافعت "بيافرا" عن نفسها، لكنّ مساحة أراضيها تقلّصت من 77000 كم2 إلى 2000 كم2.
بعد ضغط دولي، حصل وقفٌ لإطلاق النار في 15 يناير/ كانون الأوّل من عام 1970. آنذاك، كانت الحرب قد حصدت أرواح مليوني شخص ماتوا بسبب الحرب والمجاعة. وبعد أنّ احتل الجيش النيجيري غالبية أراضي الدولة المنفصلة المتمردة ووصلت إلى البحر في مايو/ أيار عام 1968، لم يكن هنالك طريقة لتزويد "بيافرا" إلا من الجو بالمؤن والمساعدات. أبقت التبرّعات من جميع أنحاء العالم نحو 13 مليون إنسان محاصرين على قيد الحياة.
تشكّل جسرٌ جويّ فوق بيافرا، كان يقذف الأغذية والمساعدات للمحاصرين. وذكّر الطيارين الألمان بالجسر الجوي الذي أُقيم من أجل دعم برلين الغربيَّة، في فترة الحرب الباردة، لما حاصرها الاتحاد السوفييتي. كانت الصور القادمة من الحرب النيجيريّة مرعبة، أطفال ببطون منتفخة وأجساد صارت هياكل عظميّة.
وجرى تفسير الحرب هويّاتياً بأنّها حربٌ دينيَّة، وذلك لأنّ غالبية الجنود النيجيريين الذين دافعوا عن الحكومة المركزيّة كانوا مسلمين، وإقلية "الإيبو" هي ذات غالبية دينية مسيحيّة. ولعبت منظّمة "كاريتاس" الدوليّة دوراً رئيسياً في جهود الإغاثة آنذاك، في الذكرى الخمسين لنهاية الحرب، وقدّمت المنظّمة تقريراً بعنوان: "50 عاماً بعد بيافرا: دروس لمواجهة الكوارث الإنسانيّة في النزاعات العنيفة". يصف التقرير كيف اضطرّت المنظمة إلى أن تتعامل مع شركاء مشكوك في أمرهم من أجل إيصال المساعدات، في كسر واضح للقواعد الديبلوماسيّة. إذْ من الصعب الحفاظ على "الحياد" و"النزاهة" في نوع من الكوارث الإنسانيَّة كهذا.
ما سبب هذا السرد التاريخي؟
يقول هانس هيلشير إنّ السبب الأساسي للتحرّكات الدوليّة آنذاك، كان بسبب هول الصور المرعبة المسربّة من الحرب. يشير هانس إلى أنّ وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وفيضان الصور العنيفة والتطبيع البصري المستمر من العنف، أدّت إلى فقدان الكثير من الصور لطاقتها الإنسانيّة التحفيزيّة والتثويريَّة. إذْ إنّ تعوّد مشاهد العنف، أدّى إلى غضّ النظر عن مسبباته. يؤكّد هانس أنّ الصور القادمة من اليمن وسورية والعراق وفلسطين، كمشهد الطفل السوري الذي يولد تحت الحصار في مدينة حلب من رحم امرأة مصابة بقذيفة روسيَّة، والموجود في فيلم "من أجل سما" لوعد الخطيب، مشهد قيامي كان يجب أن يحرّك الضمير العالمي والدولي والمؤسساتي والفردي. لكنّ الصور مرَّت دون أي طاقة احتجاجيَّة، لأنها "مثلها مثل غيرها"، تندرجُ كمقطع فيديو على موقع "يوتيوب"، يستطيع أيّ شخص أن يراه. يؤكّد هانس أنّ عدم التحرُّك بعد رؤية صور العنف، يحوّل تأثير هذه الصور عند من يراها إلى حقد شخصي وندبة نفسيّة داخليّة. والتحرُّك السياسي والإغاثي هو أفضل بما لا يقاس من غرس شعور الحقد عند الأفراد. لذلك، يقارن هانس بين تأثير الصور الآن في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، وتأثير الصور قبلها، محدّداً الفرق بأنّه في السابق، كانت الصورة الوحيدة الملتقطة بصعوبة، التي تصل بشقّ الأنفس إلى وسائل الإعلام، تؤدّي إلى تحرّكات اجتماعيّة ومظاهرات وغضب. فيما فيضان العنف الموجود الآن، الذي يصل إلى وسائل التواصل الاجتماعي بكلّ سهولة، إضافةً إلى آنيّته ولحظيّته وزواليّته السريعة، أفقد الصورة تأثيرها الاجتماعي والسياسي في الدول التي تستطيع أن توقف النزاعات بتدخّلها.