وأصدرت محكمة الاستئناف في الدار البيضاء، ليلة أمس الجمعة، حكماً بسجن بوعشرين 12 عاماً وغرامة مالية قدرها 200 ألف درهم (نحو 20 ألف دولار)، بعد إدانته بتهم الاغتصاب والاتجار بالبشر.
وجاء الحكم بعد مرافعة أخيرة لبوعشرين دامت زهاء ساعتين، نفى فيها التهم، وادعى بأنه "ضحية حرية التعبير، وضحية مقالاته التي كان ينتقد فيها بعض الأطراف النافذة".
غضب وصدمة الزملاء
نشر أغلب زملاء المهنة من الصحافيين في المغرب، خبر الحكم فور صدوره، معبرين عن صدمتهم وغضبهم، وأعادوا التذكير بأن الصحافة ليست جريمة.
وكتبت الصحافية شيماء بخساس: "أصلاً يكفي للصحافي توفيق بوعشرين، أن الشارع بمكوناته المختلفة يعلم جيداً أن محاكمته غير منطقية.. ويمكن أن تسأل "البقال" أو "سائق تاكسي" أو أي شخص من الشارع ليعلن بلا تردد تضامنه مع الصحافي بوعشرين.. أما عن المحاكمة نفسها فدع التاريخ يسجل المواقف المخزية لدى البعض.. والله يمهل ولا يهمل".
وكتبت الصحافية حنان باكور: "بين الظلم الظاهر والعدل الخفي خيط رفيع لا يراه إلا أهل القلوب، لكن دار الظلم ظلام ولو بعد حين.. فأللهم عليك بمن استقوى على عبادك بغير قوتك.. لكنها تدور".
وقال الصحافي عبد الصمد بن عباد: "سبب إدانة بوعشرين يعرفه التلميذ قبل الأستاذ، ويوضحه لك بائع الخضار قبل المحامي، ويسرد لك حيثياته "الطالب معاشه" قبل المهندس، ويستحضر لك عناوين مقالاته الخباز قبل القاضي، وتفضح خلفياته أغاني جمهور الكرة، قبل المستقلين عن قرار الدولة.. هي قناعة عامة تتكرس بعد كل إجراء، هذه الدولة بكل مؤسساتها تنتقم من الناصحين والصادقين، تعزل نفسها بعيداً عن الناس".
وكتب عبد الله أشبار: "سهرت وأنا كنت على يقين أنني سوف أسمع بخبر إطلاق صراحه وأخلد لنومي وأقول تحيا العدالة، لكن مع الأسف طار النوم من عيني وحلّت مكانه دموع حزن وألم وحقد على بلادي. الصحافة ليست جريمة وكلمة الحق ملكة، فكيف لنا أن نرى صاحب كلمة حق وصاحب القلم الحر يُتهم بتهم ليست له ويحكم بسببها بـ12 سنة سجناً نافدة. تباً للعدالة القائمة في بلادي ويا أسفااااه على بعض المسؤولين ألا ضمير لهم؟".
انتقادات الحقوقيين
أجمع ناشطون حقوقيون مغاربة في تصريحات لـ"العربي الجديد" على أن مسار محاكمة الصحافي توفيق بوعشرين شابته خروقات قانونية، وأن الغاية كان إسكات الأصوات الجريئة في البلاد عبر سجن بوعشرين 12 عاماً نافذاً وغرامة مالية باهظة.
وأفادت خديجة الرياضي، الناشطة الحقوقية المعروفة، بأن الحكم ضد بوعشرين يعتبر حكماً قاسياً يتجاوز بكثير مضمون ومحتوى الملف، لافتاً إلى أن الاتجار بالبشر تهمة لا تعني الصحافي المعتقل، بالنظر إلى حيثيات وتفاصيل القضية التي تقف في صالح بوعشرين.
وأبرزت الرياضي أن المحاكمة ضد بوعشرين لا تتعلق بجرائم جنسية بقدر ما تهدف إلى تحييده والتخلص منه، باعتبار أنه يمتلك قلماً مزعجاً ومنتقداً بشدة، وبالتالي فإن المتابعة ترتبط بحرية التعبير، متابعةً أن "مسار المحاكمة يؤشر على أنها لم تكون وفق شروط المحاكمة العادلة".
من جهته أكد عبد الإله الخضري، مدير المركز المغربي لحقوق الإنسان، أن هذا الحكم على الإعلامي توفيق بوعشرين تعني أن القضاء ذهب فيما ذهبت إليه النيابة العامة بشكل شبه كلي، وبأنه حكم مفتقد لقواعد المحاكمة العادلة".
واسترسل الخضري بأن الحكم على بوعشرين "لا يدع مجالاً للشك في كون غايته إخراس صوت مزعج، وترضية وجبر لخاطر جهات إقليمية ودولية مناوئة لحق الشعوب في الحرية والديمقراطية" وفق تعبيره.
واستدرك المتحدث "نحن لسنا ضد القانون، ولا أسمح لنفسي بمس حق المشتكيات في مقاضاة خصمهن، بخصوص بعض التهم الخاصة بعلاقات المعني بالأمر بهن، حيث تبدو من المرئيات على افتراض صحتها أنها توثق لعلاقة رضائية بين طرفين يصعب تمييزهما أكثر من أي دافع آخر".
وأورد الخضري بأن "تجاوز الاتهام إلى درجة الاتجار بالبشر، وضرب قرينة البراءة، وعدم الاكتراث لمدى صلابة الحجج حتى يجري التكييف على ذلك النحو، وإطلاق العنان لبعض المدافعين على المطالبات بالحق المدني ضد المدعى عليه، وانعدام التناسبية بين الجرم والعقاب، لم تترك سبيلا لمبادئ المحاكمة العادلة في هذه المحاكمة".
وخلُص الخضري إلى أن البلاد تحتاج إلى كوادرها ونخبها المثقفة والواعية، أصحاب الضمير الحي هم القادرون على مواجهة التحديات المستقبلية، من أجل تحقيق نهضة حقيقية في طريق بناء دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبأن الإعلامي المستقل نبراس هذا الطريق".
وبدوره صرّح الحقوقي والبرلماني عبد العالي حامي الدين، بأن بوعشرين تحول إلى بطل لحرية التعبير في المغرب، وأنه تمكن من دحض الاتهامات الموجهة إليه ليس فقط عبر محامييه بل من خلال مرافعته التي وصفها بالتاريخية، وإنه فك من خلالها شفرات "قضية القرن" وفق تعبيره.
"أخبار اليوم" تصدر عدداً مجانياً
من جهتها، أصدرت صحيفة "أخبار اليوم" (يترأس تحريرها بوعشرين)، عدداً خاصاً بالمجان إثر الحكم على مديرها. العدد تضمن تفاصيل المحاكمة، وعنون ملفه الرئيسي بعنوان "ورطة القرن"، بينما وصف محاكمة بوعشرين بـ"قصة صمود". وأعاد العدد بسط مراحل المحاكمة وكواليسها، وتحدث عن حالة الترقب والنداءات بالتعقل قبل صدور الحكم، ثم حالة الصدمة بعد صدوره.
Facebook Post |
أبرز التطورات في قضية بوعشرين
قبل النطق بالحكم، مرّت هذه المحاكمة بعدة مراحل، انتهت بالحكم الصادر مساء أمس؛ ولفهم خلفياتها لا بدّ من الإشارة إلى أنها ليست المرّة الأولى التي يحاكم فيها الصحافي المشاكس، لكنها الأولى التي ترتبط باتهامات جنائية خطرة:
- ليست القضية الأولى... لكنها الأثقل
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحاكم فيها بوعشرين أمام القضاء، إذ سبق أن حوكم سنة 2009 على خلفية نشر رسم كاريكاتوري اعتُبر مسيئاً للعائلة الملكية والعلم الوطني، وفي 2015 بسبب مقال اعتبر "ماسّاً بصورة المغرب"، قبل أن يُدان مطلع 2018 بـ"القذف" على خلفية شكوى تقدّم بها وزيران في الحكومة.
- الاعتقال وبدء المحاكمة
جاء الاعتقال في 23 فبراير الماضي، على خلفية اتهامات وجّهت لبوعشرين، تشمل "ارتكاب جنايات الاتجار بالبشر" و"الاستغلال الجنسي"، و"هتك عرض بالعنف والاغتصاب ومحاولة الاغتصاب والتحرش الجنسي" و"استخدام وسائل للتصوير والتسجيل".
- 50 تسجيلاً جنسياً
استند الاتهام إلى شكويَين من امرأتين تتهمان الصحافي بالاعتداء عليهما جنسياً، وتصريحات ثلاث سيدات أخريات قلن إنهن تعرّضن لاعتداءات منه، فضلاً عن 50 تسجيل فيديو قالت النيابة العامة إنها "ضبطتها في مكتب بوعشرين" لدى توقيفه، وتعتبرها "أدلّة إدانته". وعرضت المحكمة في جلسات مغلقة هذه الفيديوهات التي ظل دفاع بوعشرين يشكّك في صدقيتها.
- "فيديوهات غير مفبركة"
أخضع الدرك الملكي هذه الفيديوهات لخبرة تقنيّة، بطلب من النيابة العامة ودفاع المطالبات بالحق المدني، خلُصت إلى أنها "غير مفبركة". لكنّ دفاع بوعشرين اعتبر أنّ الخبرة "لم تؤكد أنه هو الذي يظهر فعلاً في هذه الفيديوهات".
وأنكر بوعشرين في كلمته الأخيرة أن يكون هو الشخص الذي يظهر في الفيديوهات التي عرضت أثناء المحاكمة في جلسات مغلقة، مشيراً إلى أنه "لم يرَ سوى علاقات رضائية في أجواء مرحة بعيداً عن أي ممارسات للاتجار بالبشر"، بحسب ما أفاد محاميه. واستدل بوعشرين، بحسب محاميه، بألفاظ كانت تستخدمها المشتكيات الظاهرات في الفيديوهات، من قبيل "اشتقت إليك"، و"هل تحبني"، وغيرهما من التعابير ذات الحمولة العاطفية، التي تنسف تهمة الاتجار بالبشر التي تعني أن الضحية تكون مستعبدة وتحت الإكراه.
- اتهامات وتراجع
وشهدت المحاكمة تطورات عديدة. فبينما أكّدت خمس سيدات أمام القاضي تعرضهنّ لاعتداءات جنسية، أنكرت أربع ممّن وردت أسماؤهن في اللائحة الاتهامية التعرض لأي اعتداء. وقد أحضرت الشرطة ثلاثاً منهنّ للإدلاء بأقوالهن بأمر القاضي.
- الحكم على مشتكية
حكمت محكمة الاستئناف هذا الأسبوع على إحدى المشتكيات بالسجن النافذ 6 أشهر، بسبب "البلاغ الكاذب والقذف"، بعدما اتهمت الشرطة بتحريف أقوالها.
- المرافعة الأخيرة
دامت مرافعة بوعشرين زهاء ساعتين، ذكّر فيها بأن قضيته لا تتعلق بالتهم الموجهة إليه، بقدر ما ترتبط بكونه قلماً مزعجاً لبعض الجهات، وبأنه "ضحية صراع بين السلطة والصحافة في البلاد، وأنه ضحية حرية التعبير، وضحية مقالاته التي كان ينتقد فيها بعض الأطراف النافذة".
وأشار بوعشرين إلى أنه "علم من مصادر حكومية، أنّ السفارة السعودية تقدمت بشكوى لدى رئيس الحكومة المغربية، تحتج فيها على افتتاحيات انتقد فيها سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان".
ونقلت "فرانس برس" عن عبد المولى المروري من هيئة الدفاع عن بوعشرين، أنّ الأخير ذكّر في كلمته بـ"السياق الوطني والدولي الذي جاءت فيه محاكمته، في إشارة إلى الانتقادات التي عبّر عنها تجاه سياسات ولي العهد السعودي وبعض المسؤولين المغاربة مثل وزير الفلاحة عزيز أخنوش".
- الحكم
قضت المحكمة في النهاية بمؤاخذة المتهم على ارتكاب الأفعال المنسوبة إليه في حق 8 ضحايا من أصل 15، وردت أسماؤهن في اللائحة التي كان يتلوها القاضي عند بداية الجلسات الأولى للمحاكمة، قبل أن يقرر مواصلتها في جلسات مغلقة.
ولم تقتنع بدفوعات بوعشرين، وأدانته وحكمت عليه بدفع تعويضات مالية لـ8 ضحايا، بينهنّ ثلاث سيّدات اعتبرتهنّ ضحايا "جريمة اتجار بالبشر".