The Worst Ones... ما قد يتعرض له الأطفال في مواقع التصوير

20 ابريل 2023
حاز The Worst Ones على جائزة نظرة ما في مهرجان كانّ السينمائي (IMDb)
+ الخط -

تعود المخرجتان الفرنسيتان ليز أكوكا ورومان غيري بفيلمهما الجديد The Worst Ones، وهو امتداد لبحث بدأ مع فيلمهما القصير الأول Chasse Royale الصادر عام 2016.

حاز فيلم The Worst Ones على جائزة نظرة ما (Un Certain Regard) في مهرجان كان السينمائي الأخير، وهي جائزة تذهب عادة للأفلام ذات المواضيع الإشكالية والنفوذ العالمي، لكن الانتصار الأكبر للفيلم يكمن في إعلانه عن مخرجتيه الشابتين وانطلاق مشوارهما الواعد في السينما الفرنسية المعاصرة.

تدور أحداث العمل في إحدى بقاع الشمال الفرنسي التي يشلها الكساد الاقتصادي، إذ يقصد غابرييل (يوهان هيلدينبيرغ)، وهو مخرج أفلام سينمائية، مشروع إسكان في بلدة بيكاسو لانتقاء طاقمه من الممثلين غير المحترفين لتصوير فيلم جديد، عن أطفال الطبقة العاملة.

يختار المخرج "أسوأ" الأطفال، كما يصفهم خلال تجربة الأداء التي يفتتح الفيلم أحداثه بها، ومن بينهم رايان الصغير (تيميو ماهاوت)، وهو طفل يعاني من اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، ويعيش مع أخته المراهقة بلا وصاية البالغين، وليلي (مالوري مانيك)، وهي مراهقة حامل تعيش في حالة حداد على وفاة أخيها الأصغر، وتعاني من التنمر في المدرسة على أثر شائعة لم تفارقها منذ الصغر. هناك مايليس (ميلينا فاندربلانك) التي ترسم صورة فجة ومؤلمة عن النقمة الطفولية، وجيسي (لويك بيتش)، الطفل الأكبر والأكثر قسوة وتنمرًا بين طاقم الممثلين غير المحترفين. يركز الفيلم على التقاطعات بين حياة الأطفال والفيلم الذي يصورونه، وينتهي بانتهاء تصوير الفيلم الداخلي، تاركًا أحجية كبرى حول مصائر كل من المشاركين فيه وصانعيه.

يتتبع العمل سرداً فوقياً Meta-narrative للأحداث، ويصور فيلماً داخل فيلم على غرار مسرحيات الإيطالي لويجي بيرانديللو، أو الأعمال السينمائية للمخرج الألماني راينر فاسبيندر. يفيد ذلك النهج البريختي المعروف في تصوير الأحداث من دون الانغماس في العاطفة التي تنجم عن تقنية الإيهام الأرسطية، تاركًا فجوة عميقة بين المتخيل والواقع، وأخرى أوسع بين المشاهد والمادة المصورة أمامه، فيغدو أكثر عقلانية في التعليق عليها والتفاعل معها. تلك الممارسة ليست غريبة عن سياسات الأفلام الفرنسية، حتى أنها كانت أكثر التقنيات شيوعاً في الحركة السينمائية الجديدة (Nouvelle Vague) التي تأسست في فرنسا خلال الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، وركزت على تقنيات التصوير الحديثة والنهج غير التقليدي للتمثيل والسرد.

يلقي الفيلم الضوء على ما يُرى بوصفه "طفولة تقليدية" في أحياء الطبقة العاملة ومدن الصفيح، إذ ينتزع المخرج غابرييل الأطفال من بيئتهم بغرض تصويرها. هم يمثلون أنفسهم أمام الكاميرات وخلفها، وتلك معادلة تصح أمام عدسة غابرييل وفي وجه كاميرات المخرجتين الشابتين أيضاً، إذ قررت أكوكا وغيري توظيف ممثلين غير محترفين وفق عملية كاستينغ الشارع، للعب أدوار الفيلم المركبة نفسياً واجتماعياً واقتصادياً. غالبًا ما تُستخدم هذه الطريقة في الأفلام المستقلة والوثائقية وبرامج تلفزيون الواقع، إذ يتم تفضيل الطبيعية والأصالة على مهارات التمثيل التقليدية. وفي حين يعتبر اتخاذ الموقف المضاد من صناعة الأفلام ووكالات المواهب هو هدف أساسي لعمليات كاستينغ الشارع، إلا أن استخدامها يتيح بالدرجة الأولى "نكش" القضايا المجتمعية في البيئات المحرومة والمستبعدة عن الإعلام، أو تحدي التمثيلات السائدة للمجموعات المهمشة.

بهذه الممارسات السينمائية الثورية التي اكتسبت شعبيتها الواسعة مع سينما الحقيقة (Vérité Cinema)، يدعو الفيلم جمهوره إلى اتخاذ موقف نقدي من انخراط الأطفال في الصناعات الترفيهية، حتى في ما يتعلق بمادته ذاتها، إذ يحمل The Worst Ones نوعاً من النقد الذاتي أيضاً. يتخلل أحد مشاهد الفيلم الداخلي مشهد جنسي يؤديه كل من ليلي وجيسي بطريقة غير لائقة، يحاول فيه المخرج زجهما في تعقيدات تجربته الجنسية الشخصية، ويجبرهما على حميمية غير مدروسة من دون وجود مدرب خاص للمشاهد الحميمية. وهي تجربة تنتهي بنوبة ذعر حادة تصيب جيسي، مع إصرار المخرج على إعطاء الإرشادات الإخراجية ونفث الذكورية السامة في وجه المراهقين المرتبكين.

يطرح الفيلم سؤالاً مهماً عن مصير هؤلاء الأطفال بعد أدائهم لمهامهم وانتهاء العقود المبرمة، ويشير إلى الاستغلال المحتمل الذي قد يتعرض له الأطفال في مواقع التصوير، فضلاً عن الضغط والجهد الكبيرين خلال ساعات العمل وبعدها. وعلى الرغم من وجود لوائح لحماية الأطفال الممثلين وتنظيم ساعات العمل، فإن عوامل الخطر ما زالت مرتفعة، خاصة على صعيد الصحة النفسية للأطفال واليافعين. في مشهد مؤلم وصادم، يبوح المخرج لإحدى الممثلات الطفلات كيف أنها ستتعود على الطاقم وتحبه، ثم ستحرم منه بعد أن ينتهي كل هذا. تقع ليلي أيضاً في غرام أحد العاملين في طاقم الصوت، يرفضها الأخير، فتصاب بنوبة إحباط مؤلمة.

أما أحد أكثر موضوعات الفيلم أهمية وجدة، فهو معالجته لفكرة "أخلاقيات التمثيل"، وما يمكن أن تسفر عنه من سوء فهم وسط عالم يخوض معارك طاحنة لزيادة التمثيل التنوعي، لكنه مع ذلك يجعل تلك المهمة شائكة وتنطوي على كثير من المخاطر، منها سوء التمثيل أو التشكيك في النوايا أو استنتاج الأفكار العكسية.

يعرب السكان المحليون في بلدة بيكاسو عن استيائهم من فريق العمل، ويتخوفون من تصوير حياتهم بشكل مسيء أو إهانتهم بحجة إنجاز عمل فني. ما يتحدث عنه السكان بلغة بسيطة، يفضي بشكل واضح إلى مصطلح "إباحية الفقر"، الذي يشير إلى استغلال أو تصوير الفقراء والمحتاجين بطريقة مبالغ بها أو غير أخلاقية في وسائل الإعلام أو الفن أو الأدب.

تطاول تلك الشكوك المشاهد ذاته، مع أولى مشاهد الفيلم التي يعلن فيها المخرج بداية بحثه عن "أسوأ" الأطفال خلال المقابلات، قاصداً اهتمامه بأكثرهم تعاسة أو فقراً، وذلك بغية تحقيق الصورة المرجوة من فيلمه المناصر لحقوق الفقراء. لا تدافع المخرجتان عن غابرييل، بل تتركان غاياته لغزاً وتلفان أهدافه بطبقات صلبة من الغموض والحيرة، ينتهي إليها الفيلم من دون إدانة أو توجيه اتهام أكيد، محاكياً إلى حد كبير الإشكاليات التي تتأتى من ذلك النوع من الأفلام.

يقدم لنا The Worst Ones نموذجاً معاصراً عن التجريب الفني في أكثر أشكاله راديكالية وجرأة، عائدًا إلى تقاليد الفيلم الأوروبي كما شاعت تسميتها سابقاً، خاصة تلك التي ميزت السينما الفرنسية في عقد خلا. قد لا يكون The Worst Ones فيلماً للجميع، لكنه بلا شك مغامرة شيقة لأولئك المهتمين بأرشيفات السينما الغربية وأشكال تطورها، وغيرهم ممن تستهويهم النقاشات الحديثة حول ضرورات التمثيل والعلاقة الشائكة والمتوترة بين الشيء وصورته.

المساهمون